منذ البداية، أي منذ انطلاق الثورة السورية (آذار/ مارس 2011)، وعلى مدار ستة أعوام، شهد الصراع السوري تغيّرات، أو منعطفات عديدة، كان لكل واحدة منها سماتها وأدواتها وخطاباتها وتداعياتها الخاصّة، سيما أن الحديث يدور عن ثورة عفوية، وعن افتقاد السوريين كيانات سياسية جمعية، أو تجارب كفاحية سابقة، وعن واقع شديد التعقيد ومفتوح على مصراعيه على التدخلات الخارجية.
في هذا الإطار قد يمكن تعيين تحولات الصراع السوري بعديد من النقلات، التي تجسّدت: أولاً في التحوّل من الثورة الشعبية السلميّة ضد النظام، في الأشهر الأولى، ضمن معادلة شعب أو أغلبية الشعب ضد النظام، إلى حصر الصراع في المواجهات المسلحة، التي يتحمّل النظام مسؤوليتها بسبب إصراره على الحل العسكري، وإدخاله قوى خارجية (ميليشيا «حزب الله») في هذا الصراع، خاصة منذ صيف 2012. ثانياً، بدخول قوى أخرى، وخلق طبقات، ومعادلات أخرى للصراع، نتيجة بروز تنظيمات إرهابية، وذات أجندة خارجية تختلف عن أجندة الثورة السورية المتعلقة بالحرية والمواطنة والديموقراطية، مثل «داعش» و «جبهة النصرة» وأخواتهما من جهة، وقوات «الحرس الثوري» الإيراني و «حزب الله» اللبناني وألوية زينبيون وفاطميون ونجباء وعصائب الحق وأبو الفضل العباس وغيرها من ميليشيات طائفية ومذهبية عراقية وباكستانية وأفغانية من جهة أخرى. ففي خضم هذه المرحلة، التي تجسّدت منذ صيف العام 2014، تمت إزاحة أهداف الثورة جانباً، وتغليب الصراع العسكري، واضفاء طابع طائفي وديني على الصراع الدائر، بحيث نجم عن كل ذلك تشريد ملايين السوريين وتدمير عمرانهم. ثالثاً، بدخول روسيا مباشرة كطرف فاعل في الصراع العسكري في سورية (أيلول/ سبتمبر 2015)، الأمر الذي ساهم بمنع انهيار النظام وتعويمه، وتمييع مفاوضات جنيف، وكما شهدنا فإن هذا الوضع أدى، أيضاً، إلى تغير معادلات الصراع السوري، بإعادة تموضع القوى فيه، وهو ما تمثل بتوافق روسيا وإيران وتركيا على مسار آستانة وعلى خطة «المناطق المنخفضة التصعيد»، بدءاً من مطلع العام الحالي.
وربما أننا الآن إزاء المرحلة الرابعة من الصراع السوري، مع هزيمة «داعش» والمنظمات الإرهابية في سوريا (والعراق)، ومع التحول التركي نحو إيجاد توافقات مع روسيا وإيران بخصوص المسألة السورية، وهذا ما قد تفصح عنه نتائج القمة الثلاثية المرتقبة غداً (22 الشهر)، في سوتشي، والتي دعا إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسيشارك فيها الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني.
على ذلك، وبعد كل هذه التجربة، وكل هذه التحولات، قد يجدر التنويه هنا إلى بروز مسألتين: أولاهما، أن الوضع الصراعي في سورية لم يعد يشتغل وفق معادلة ثورة في مواجهة نظام، إذ باتت ثمة طبقات أخرى في الصراع. فحتى مع إزالة الطبقة المتعلقة بالصراع ضد القوى الإرهابية ثمة الطبقة الأخرى المتعلقة بالصراعات الدولية والإقليمية على سورية، التي باتت هي المقررة في مآلات الصراع الدائر، بحكم ضعف الثورة السورية، وغياب بعدها الشعبي (بعد تشرد الملايين)، وبواقع ارتهان أو اعتماد معظم كيانات المعارضة السياسية والعسكرية على الأطراف الخارجية. وثانيتهما، تغيّر تموضع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الصراع، وخاصة التحوّل الرئيس، والمؤثر على المعارضة، وعلى مستوياتها، والمتمثل بانتقال تركيا من التخاصم أو التنافس إلى التوافق أو التنسيق مع كل من روسيا وإيران، سيما بعد أن أضحت المسألة الكردية هي الشغل الشاغل لتركيا، وليس دعم ثورة السوريين أو دعم المعارضة لإسقاط نظام الأسد، لأسباب رؤيتها لذاتها ومكانتها ومصالحها وأمنها.
القصد أن ما قبل التوافق الروسي- التركي- الإيراني، الذي قد يترتب في قمة سوتشي، ليس كما بعده، مع معرفتنا بمدى التأثير التركي على الثورة السورية، وعلى طابعها وأشكال عملها وتموضع كياناتها. والقصد أيضاً أن أوساط المعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، وبغض النظر عن العواطف والرغبات، معنيّة بعدم تجاهل المتغيرين المذكورين، أو الاستهانة بتأثيراتهما، بل إنها معنية بالتصرّف على أساس إدراكها لهما، مع محاولة إيجاد التقاطعات، وبناء المعادلات التي تخفف من وطأتهما عليها، باعتبار أنها معنية أساساً بتحقيق تطلعات الشعب السوري، وليس بأي اعتبارات أخرى لا تفضي إلى ذلك.
والفكرة هنا أن المعارضة السورية باتت إزاء وضع جديد ومعقد وحرج، فإما أن تراجع تجربتها، وتدرس التحولات الحاصلة فيها، بطريقة نقدية، لتأهيل ذاتها، وتطوير أوضاعها، ما يمكنها من تدارك ما يحصل، وهو ما لم تقم به حتى الآن. وإما أنها ستجد نفسها مضطرة، بإرادتها، أو رغماً عنها، للتكيف مع الواقع الجديد، ومسايرته، وهو ما حصل في تجربة سابقة، في رفض مسار آستانة ثم القبول به (لمن يتذكر)، وبالتالي المساهمة في إضعاف مسار مفاوضات جنيف (المتأسس على بيان جنيف -1)، وهو ما يخشى أن يتكرر مع مسار سوتشي في قادم الأيام، ما يعني الانزياح عن أهداف الثورة، وتقويض مكانة المعارضة، والتحول إلى مجرد أداة في لعبة إقليمية.
في الغضون يفترض الانتباه أيضاً، إلى أننا إزاء إعادات تموضع لمختلف الأطراف المنخرطة، أو المتورطة في الصراع السوري. فمثلاً، هذه روسيا التي باتت تتصرف وكأنها صاحبة الربط والحل في هذا الصراع، وفقاً لاعتقادها أنها هي التي أنقذت النظام من السقوط، وهي في ذلك باتت تنافس إيران على هذا الموقع، فبعد أن كانت تتوسل التوافق مع الولايات المتحدة، على الأقل في ما يتعلق بخفض التصعيد في جنوب غرب سورية (بالتوافق مع إسرائيل أيضاً)، فإذا بها تعلن تنصّلها من هكذا توافق، بل واعتبار الوجود الأميركي في سورية غير شرعي. وقد شهدنا تبعات ذلك في ثلاثة فيتوات روسية في مجلس الأمن في غضون شهر واحد، بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، وفي دعوة روسيا إلى مؤتمر «شعوب سورية» أو مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، في محاولة لخلق بديل عن مسار التفاوض في جنيف، وكتتويج لمكانة روسيا الجديدة في سورية.
في المقابل، فإن الولايات المتحدة الأميركية، التي استثمرت في التورط الروسي والإيراني والتركي في سورية، تبدو وكأنها أقرب إلى وضع استراتيجية جديدة لها، الأمر الذي يتضح في استهدافها إيران، إن عبر التبرم من الاتفاق النووي معها، أو عبر الشروع في وضع قوات «الحرس الثوري» الإيراني والميلشيات التي تتبع به في قائمة الإرهاب، كما يتضح ذلك في تصريح وزير الدفاع الأميركي ماتيس الذي اعتبر أن الوجود الأميركي في سورية سيبقى حتى بعد انتهاء الحرب على الإرهاب («داعش»)، بانتظار تحقيق التسوية السياسية وفق مسار جنيف (وليس غيره)، كما يتمثل ذلك بوضع الولايات المتحدة خطوطاً حمراً لمنع اقتراب قوات إيرانية أو قوات حليفة لها نحو الجنوب أو نحو الشرق مع الحدود العراقية، كما يأتي ذلك ضمن المحاولات الأميركية لإضعاف النفوذ التركي في الصراع السوري.
وبديهي أن إعادة التموضع هذه تشمل تركيا، أيضاً، العضو في الحلف الأطلسي، وهو ما يظهر في تضعضع الثقة بينها وبين الولايات المتحدة، وفي محاباة هذه الأخيرة لـ «قوات سورية الديموقراطية»، التي يديرها حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (الكردي) ، والذي يعتبر عند تركيا امتداداً لحزب العمال الكردي (التركي)، والذي تتعامل معه كمنظمة إرهابية، كما أن التموضع التركي الجديد محاولة لإيجاد مقاربات سياسية للمسألة السورية مع روسيا وإيران. أما في ما يخص إيران فإن إعادة تموضعها في الصراع السوري يظل ثابتاً بالقياس لغيرها، باستثناء شعورها بالتنافس مع الوجود الروسي، وهذا يشمل محاولاتها خلق توافقات مع تركيا في الشأن السوري. ويستنتج من ذلك أن إعادة التموضع، الأكثر تأثيراً ربما في الصراع السوري، تتعلق بتحول تركيا نحو التوافق مع كل من روسيا وإيران، أي الدولتين الضليعتين في وأد الثورة السورية، وقتل الشعب السوري وتدمير عمرانه، من منظور رؤيتها لأمنها القومي، وبحسابات تخوفها أو ريبتها من تبعات الموقف الأميركي في الصراع السوري (والعراقي).
قصارى القول، أن الصراع السوري يدخل مرحلة جديدة، وفي تعقيدات مغايرة، من أهم علاماتها التوافق الروسي الإيراني التركي، وهو وضع لا بد سيفضي إلى تغيرات كثيرة، وإلى طرح تحديات غير مسبوقة على المعارضة والثورة السوريتين.
عذراً التعليقات مغلقة