الإنسانيّة بخير!

جوان سوز17 نوفمبر 2017آخر تحديث :
جوان سوز

* (عن قصة حقيقية بين زبون وعامل وحلبي..)

كنتُ قررت الخروج من البيت بعدما اتصلتُ بشاعرٍ كُردي سوري يقيم بمدينة أربيل وأخبّرته برغبتي في الذهاب إلى أحد المقاهي، ولم يرفض صديقي طلبي وجاءني بصحبةِ زميل صحافي آخر، يعمل في فضائيّة كُرديّة، وذهبنا معاً إلى مقهى هادئ وجميل يقع وسط أربيل وطلبنا قهوة تركيّة كعادتنا، وتحدّثنا ككل مرة عن الوضع السوري بشكلٍ عام والكُردي بشكلٍ خاص لأكثر من ساعتين، حتى انتهى بنا المطاف في الحديث عن أدونيس ومقولته الشهيرة “لا أؤمن بثورةٍ تخرج من الجوامع!”.

وعلى سيرة الثورة، بينما كنّا نشرب قهوتنا، نحن الثلاثة، ونتحدث بشغف عن الأحداث التي تشهدها سوريا وأوضاع اللاجئين السوريين وما يعانوه، حصل موقف سيء لم يكن في البال مع شاب سوري لا يتعدى السادسة عشرة من عمره، يعمل في المقهى الذي كنا نجلس فيه، حيث تحدّث إلينا بهدوء، ورحّب بنا، ثم سألنا عن المدنيين الذين هجّرهم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من مدينة الرقة السوريّة إلى تدمر آنذاك، وماذا يمكن أن يفعل بهم التنظيم الارهابي؟ هل سيقتلهم أم يكتفي باعتقالهم؟ وما إلى ذلك من هذه الأسئلة للاطمئنان على عائلته، فقلت له لن يحصل شيء من هذا القبيل، ولو حدث شيء مما تقول، لسمعنا بذلك على الفور، فنحن نتابع الأخبار لحظة بلحظة.

وواصل ذاك الشاب الذي يعمل في المقهى حديثه، قائلاً، إن عائلته التي كانت تعيش في الرقة، قد أجبرها التنظيم على المغادرة من هناك إلى مدينة تدمر، وهو قلق عليها، ولاسيما إنه فقد الاتصال بشقيقه، فحاولنا نحن، أن نخفف عن ذاك الشاب مشقة التفكير بعائلته، مؤكدين أنهم بخير ولن يصيبهم أذى، في محاولة منا لطمأنته وإبعاده عن تخيل السيناريوهات السيئة التي من المحتمل أن ينفذها “داعش” مع عائلته المشردة، ونجحنا بذلك بعد حديثٍ استغرق أكثر من ساعة .

المصيبة إن زبوناً آخر، يبدو إنه حلبي (أي من مدينة حلب) يجلس على طاولة بجوارنا، بصحبة شابين آخرين، هدر كلّ نشاطنا ومحاولاتنا في الوقوف بجانب مصيبة ذاك الشاب السوري الذي يعمل في المقهى. فقد قام الزبون الحلبي، بإلقاء محاضرة عن التربية والأخلاق لذاك العامل، فقط لأنه قال له ليس هناك أحد لتبديل علبة المياه المعدنية التي أمامه، وهذا ما كان سبباً قوياً ليتابع ذلك الزبون محاضرته عن الأخلاق، حتى سمعه كل الزبائن في المقهى، وهو يقول أنه يأتي لأخذ قسطٍ من الراحة، وإن أبناء ـ العائلات المحترمة ـ يجب أن يُعاملوا باحترام، ويجب ألّا يرفض أحد طلباتهم مهما كان نوعها، وكيف أنه يأتي إلى المقهى كل يوم، وأنه زبون دائم، ويجب أن يحظى بمكانة لائقة أيضاً .

وتابع الحلبي ـ الشهم ـ محاضرته تلك، حتى شعر الشخصان اللذان كانا برفقته بالإحراج، حيث اعتذرا على ما حصل، وقال لهم صديقي الصحافي الكردي السوري إن عائلة الشاب معتقلة لدى “داعش”، فردّ الحلبي على الفور، أن “داعش” قتلت نصف عائلته، واعتقدنا أن هذا محض كذب وتلفيق، فمن عاش مثل هذه المأساة برحيل نصف عائلته على أيدي “داعش” لا يتعامل بهذه الحقارة مع عاملٍ بسيط!

كان موقفاً صعباً، والإنسانية تباد أمامنا، فكّرنا نحن الثلاثة بضرب الزبون الحلبي، لكن ذلك قد يؤدي بنا إلى الترحيل خارج أراضي الإقليم. أجل لقد شعرنا بالعار حقاً، ووجدنا كيف أن الإنسانية يكثر معارضوها، ولم نهدأ إلا مع خروج صاحب المقهى الذي قال للزبون الحلبي، إنّه أخطأ مع عامله، فشعرنا حينها بالفرح حين سمعناه يقول عبارته العنيفة “أخطأت ونص” فرد عليه الحلبي: سأدفع الحساب وأخرج لأنني لم أخطئ، فكان رد صاحب المقهى “أخطأت وبإمكانك أن تغادر المقهى دون أن تدفع الحساب أيضاً، إن كنت تريد أن تقوم بإلقاء محاضراتك على الفقراء، فلا تأتِ إلى هذا المكان مرة أخرى”.

في تلك اللحظة تداخلت مشاعرنا وبتنا على يقين أنه مهما زاد الظلم والقتل، تبقى الإنسانية بخير، وسارعنا لشكر صاحب المقهى على موقفه العظيم، والملفت أن صاحب المقهى نبه عمّاله بعدم استقبال مثل هكذا زبائن مرة أخرى، مشدداً على أنه لن يسمح لأحد بإهانتهم مهما حصل!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل