بدأت الولايات المتحدة وروسيا ماراتوناً جديداً يذكّر بالعام الأخير من عهد باراك أوباما، مع المصطلحات ذاتها. بقاء سورية دولة موحّدة. لا حلّ عسكرياً فيها. عملية سياسية وفقاً لبيان جنيف والقرار 2254. التعاون في محاربة الإرهاب… لكن الإفراط في تكرار الأقوال وتأكيدها من دون أثر لها في الأفعال، جعلها في السابق غير مؤكّدة البتّة. لا أحد يتوقّع أن تكون الدولتان الكبريان شفّافتَين، لكن الأسوأ أن أحداً لم يعد قادراً، بما في ذلك دول وحكومات، على فهم ما الذي تفعلانه في سورية، ولماذا تتراشقان الاتهامات بدعم الإرهاب الذي يُفترض أنهما تحاربانه، وما الهدف من محاولتهما التلاعب بصيغة تمثيل المعارضة، وهل هو تلاعب أيضاً بالحل السياسي نفسه لإطاحة محدّداته التي أُثبتت في مرجعيات دولية صيغت بعناية ثنائية، أميركية– روسية؟
نهاية تنظيم «داعش» في سورية، بعد العراق، هي هزيمة أساسية للإرهاب. لذا يتسابق الجميع إلى اعلان أبوّتها، من نظام بشار الأسد ونظام إيران وميليشياتها، إلى موسكو وواشنطن وأنقره وعواصم أخرى. يُراد لهاتين النهاية والهزيمة أن تعنيا بالضرورة نهاية الصراع السوري، غير أنه لم ينتهِ. كان النظام السوري أعلن الأسبوع الماضي انتصاره على الإرهاب في آخر نقاط سيطرة «داعش»، البوكمال، قبل أن يستعيدها فعلاً، ومن دون أن تشارك قواته في قتال تولّاه «حزب الله» وميليشيات إيرانية أخرى، إلّا أن الأسد استبق ذلك بإعلان نيته مقاتلة «قوات سورية الديموقراطية» لطردها من الرّقة ودير الزور، ثم أضاف علي أكبر ولايتي إدلب إليهما، في تذكير بالطموحات المعلنة منذ سقوط حلب، وقبل أن تفتح روسيا مسار آستانة الذي أوقف عملياً كل الخطط المرسومة سابقاً. فغداة محادثات طهران مع الرئيس الروسي، تحدّث مستشار المرشد عن «انتصار إيران» من بيروت، ثم انتهز زيارته لحلب ليعلن أن الحرب مستمرّة. هل هذا ما أُتفق عليه مع فلاديمير بوتين؟
عشية القمة الروسية- الإيرانية كان هناك لقاءٌ لـ «مسؤول أميركي رفيع المستوى» في دمشق مع مدير مكتب الأمن القومي علي المملوك، وقد وصفت تسريبات النظام هذه الخطوة بأنها «مهمة» وفسّرتها بما يناسبه، فعزتها إلى «تغيير» في سياسة البيت الأبيض، لكنه «غير مقنع». لم يسرّب الجانب الأميركي شيئاً، غير أن بعض المصادر قال إن «المسؤول» طلب من دمشق أن تدرس وجهتها المقبلة، لأن إسرائيل ستتخذ إجراءات ضد الوجود الإيراني في سورية، وستحظى بتأييد دولي. اعتُبرت هذه الرسالة استكمالاً لرسائل أخرى بلغت دمشق وطهران خلال الأسابيع الأخيرة، وتضمّنت إشارات إلى «خطوط حمر» عديدة تخطّاها الإيرانيون وعُرف منها: مصنع مصياف للمعدّات الحربية (ضربته إسرائيل في أيلول/ سبتمبر الماضي لكنه لا يزال يعمل)، تمركز مقاتلين من «حزب الله» وميليشيات عراقية قريباً من الجولان (اتفاق خفض التصعيد في الجنوب الغربي يطلب إبعادهم إلى 20 كيلومتراً على الأقلّ)، قافلة أسلحة إلى «حزب الله» (زمنها وحمولتها غير محدّدين)، ارتداء الميليشيات زي قوات النظام في العمليات القتالية، محاولة إيرانية للاستيلاء على مصالح واستثمارات إسرائيلية في كردستان العراق.
ومع أن واشنطن أشارت مراراً إلى أنها تعتبر اتصال الميليشيات الإيرانية عبر الحدود السورية- العراقية خطاً أحمر أيضاً، إلا أن هذا الاتصال حصل على رغم أمرين: أولهما اعتراض الحكومة العراقية على وصول «الحشد الشعبي» إلى الحدود، والآخر شبه «تفاهم» أميركي- روسي على أن تتسلّم قوات النظام (وليس الميليشيات) الحدود من الجانب السوري، وليست لدى النظام قوات كافية لهذه المهمة. وعدا تجنّب الصدام الجوي أو الاحتكاك البرّي بين الأميركيين والروس أظهرت الوقائع أن تفاهماتهما ليست دائماً ثابتة وصلبة، سواء لأن بينهما تنافساً وتريد روسيا إثبات أن الكلمة لها في سورية أو لأن علاقتهما أصيبت بخيبة أمل «استراتيجية» بسبب التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي الآونة الأخيرة، شهدت معركة دير الزور سباقات وصدامات بين القوات التي تدعمها الدولتان، لذلك اضطرّتا إلى مراجعة «التفاهمات» وتجديدها بل أعلنتاها في «بيان دانانغ (فيتنام)»، على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا، حتى من دون لقاء رسمي بين الرئيسين دونالد ترامب وبوتين.
على رغم عناوينه المكرّرة والفضفاضة وُصف البيان بأنه توافق أميركي- روسي على «مستقبل سورية»، لكن أقل ما يقال فيه أنه يعيد إنتاج الغموض في شأن ذلك المستقبل، وكالعادة لم تكن الشروح الجانبية من خارج النص متوافقة، وحتى ما يمكن قراءته بين السطور لا يؤكّد توافقاً نهائياً. ومع أن اتفاق الرئيسين على «أن النزاع ليس له حل عسكري» وتصميمهما على «دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» لا يحملان جديداً فإن تغيّر الظروف يعطي لهذين الهدفَين معاني مختلفة، أولاً بسبب هبوط حدّة الصراع المسلح، وأيضاً لأن «دولة داعش» المزعومة انهارت وتفكّكت. لكن هزيمة الإرهاب لا تعني انتصار نظام الأسد في النزاع الداخلي الذي سيبقى رهن التوصّل إلى حل سياسي. وما أمكن فهمه أن خطة «مناطق خفض التصعيد» التي ترعاها روسيا تعني بقاء المناطق الأربع على حالها في انتظار العملية السياسية. كان الأميركيون أبدوا في السابق قبولاً مبدئياً بأن يتسلّم النظام أي منطقة تشهد هدنة ثابتة، إلا أن عدم توفّر قوات كافية لديه واعتماده على الميليشيات الإيرانية وسلوكه الانتقامي تجاه السكان وعرقلته إيصال مساعدات إنسانية إليهم أثبتت للروس والأميركيين معاً أن النظام لم يعد مؤهّلاً لتسلّم أي منطقة خرجت عن سيطرته.
قد يكون الأهم في «بيان دانانغ» ما يبديه من اتفاق أميركي- روسي على أن بقاء سورية دولة موحّدة مرتبط بعدم وجود «عناصر أجنبية» على أرضها، في إشارة أولاً إلى المقاتلين الأجانب الذين تناقصوا إلى أدنى حدّ لدى «داعش» ولا يزال عددٌ محدود منهم في صفوف «هيئة تحرير الشام/ جنهة النصرة سابقاً»، وفي الحالَين لم يعودوا يشكّلون خطراً على وحدة سورية. لكنها إشارة أيضاً، وخصوصاً إلى الميليشيات التابعة لإيران. ويبدو أن الأميركيين استجابوا طلب الروس عدم تسمية الجهة «الأجنبية» المعنيّة تفادياً لاستفزاز إيران. قد تكون هذه المرّة الأولى التي يُعطى فيها مبدأ «سورية دولة موحدة» بعداً عملياً وجيو- استراتيجياً، لكن الأسئلة تبقى مطروحة عن مدى جدّية الدولتين الكبريين في احترام ذلك المبدأ والتزامه.
بالنسبة إلى المراقبين قد ينعكس بيان ترامب- بوتين على مسار الأحداث في اتجاهات ثلاثة: الأول، أن استبعاد «الحل العسكري» قد يُبطل تهديدات الأسد وإيران بمواصلة القتال لاستعادة كل المناطق، فهما لا يستطيعان ذلك من دون إسناد جوي روسي. والثاني، أن حسم مسألة إبعاد الإيرانيين وميليشياتهم عن منطقة الجنوب الغربي، ربما يستبعد حرباً يتردد أن إسرائيل تتهيّأ لها ضد الوجود الإيراني في سورية. والثالث، أن اعتماد صيغة «مناطق خفض التصعيد» كمؤشّر كافٍ لإطلاق مفاوضات الحل السياسي وتجديد الرعاية الأميركية– الروسية لها على أساس بيان جنيف والقرار 2254، يفترض أن موسكو تتعهّد مشاركة «جديّة» من جانب النظام مع احتمال أن تبدي واشنطن مرونة حيال مطالبة روسيا بإعادة تشكيل وفد المعارضة.
لماذا احتاج بوتين إلى هذا البيان متجاوزاً رفضاً أميركياً للقاء قمة بينه وبين ترامب؟ لأن كل الترتيبات الروسية لـ «إنهاء الحرب» اصطدمت بمطالب واقعية وغير تعجيزية، فالاعتماد على الأسد وإيران يعني حرباً مفتوحة قد ترغب فيها روسيا لو أنها تسعى إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، أما اذا كانت تتطلّع إلى استثمار وجودها في سورية فلا بدّ لها من أخذ الشروط الأميركية والغربية في الاعتبار لإزالة العقبات أمام إعادة الإعمار، وأول تلك الشروط وأهمها أن تكون هناك «عملية سياسية جديرة بهذه التسمية». وكلّما اقترب البحث في الجانب السياسي، شعر النظام وإيران بأن الخطّ البياني لمشروعهما بلغ أقصى صعوده ليبدأ الهبوط تدريجاً.
عذراً التعليقات مغلقة