أثار البيان الأميركي/الروسي -الذي صدر السبت الماضي بعد لقاء قصير بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، على هامش مشاركتهما في قمة منظمة “آبيك” بفيتنام- عدة أسئلة بدلاً من أن يقدم أجوبة، والكثيرَ من الغموض بدلاً من الإيضاحات المطلوبة من الدولتين لتوافقاتهما بشأن الصراع في سوريا.
وأهمية هذا البيان تتأتّى من معرفة الحدود التي وصل إليها الموقف الأميركي من الصراع السوري في ظل رئاسة ترمب، وضمن ذلك معرفة مدى التوافقات أو نوعية الاختلافات بين السياستين الأميركية والروسية فيما يخص الشأن السوري، بعد كل التحولات الحاصلة، إن في الميدان أو في صراعات القوى على الساحة السورية.
ويأتي أيضا في سياق ذلك مآل المفاوضات في أستانا، ونتائج الخطوة التي كانت روسيا تعتزم القيام بها والمتمثلة في تنظيم مؤتمر يجمع كل الأطراف السوريين، على نحو ما دعت إليه في سوتشي مؤخّراً؛ قبل أن يتم تأجيله أو صرف النظر عنه ولو مرحليا.
الاستنتاجات الأساسية
على أية حال ثمة عدة استنتاجات أساسية تضمنها بيان ترمب/بوتين، لعل أهمها يكمن في:
أولاً، أنه حتى الآن لا يوجد اتفاق كامل -أو حتى اتفاق حد أدنى- أميركي/روسي على إنهاء الصراع في هذا البلد، وضمن ذلك ما يتعلق بالبتّ في مصير بشار الأسد.
ثانياً، لم تحسم واشنطن أمرها بعدُ بخصوص هذا الصراع، مما يجعل روسيا هي المتحكّمة أو المتورّطة فيه أكثر من غيرها، في المدى المنظور على أقل تقدير.
ثالثاً، أن الدولتين الكبريين (أميركا وروسيا) غير معنيّتين تماماً بأخذ مصالح الدولتين الإقليميتين المنخرطتين في الصراع السوري، أي إيران وتركيا.
رابعاً، يظهر من البيان أن ثمة توافقا بين الدولتين بخصوص الحفاظ على مناطق النفوذ القائمة الآن، بما في ذلك منطقة النفوذ التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” -برعاية أميركية- شمال شرق وشرق سوريا، بمحافظات القامشلي والرقة والحسكة، من الضفة الشرقية لنهر الفرات إلى الحدود العراقية، وهذا ما تم تثبيته تحت عنوان الحفاظ على التنسيق القائم بين قوات الطرفين (الأميركي والروسي) لمنع حدوث أي تصادم بينهما.
خامساً، ركّز البيان على الحل السياسي، وعلى المسار التفاوضي في جنيف، أي أنه أهمل المسارين الآخرين (أستانا وحميميم/سوتشي)، وهو ما يعيد القضية إلى نصابها، ويؤكد أن أميركا هي المتحكمة في اللعبة السياسية، دون أن يعني ذلك توقف مساريْ أستانا وحميميم/سوتشي.
سادساً، مواصلة الحفاظ على قنوات الاتصال العسكرية الموجودة لضمان أمن القوات المسلحة الأميركية والروسية، وكذلك لمنع وقوع حوادث خطيرة بين القوات الشريكة في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، واعتبار أن هذه الجهود ستستمر حتى الهزيمة النهائية لـ”داعش”.
وفوق كل ما تقدم، ثمة مسألتان يُفترض الانتباه إليهما -أكثر من غيرهما- في البيان المذكور: أولاهما، تتعلق بعدم التطرّق إلى مصير تركيا أو مصالحها، أو منطقة النفوذ التركية بالشمال السوري، وضمنه في محافظة إدلب وأرياف حلب.
ويعني ذلك أن هذا الأمر ربما ما زال بحاجة إلى توافق أميركي/روسي، الأمر الذي قد يُستنتج منه أن هذه المنطقة ستبقى في إطار التصارع، بهذا الشكل أو ذاك، وبهذا المستوى أو ذاك، لا سيما أن ملف هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) لم يجر طيه بعدُ.
كما يعني ذلك أن الطرفين ما زالا يتوجسان من مكانة تركيا، ومن الموقف التركي في الصراع السوري، وحتى على صعيد العلاقة الثنائية بين كل منهما وبين تركيا.
وعلى الأرجح؛ فإن الأمر سيبقى على هذا النحو إلى حين استقرار العلاقة التركية الأميركية، أو إلى حين تكيّف تركيا مع زيادة روسيا لنفوذها في سوريا.
وثانية المسألتين الأهم في البيان المشترك هي أنه يبدو أن ثمة موقفا حاسما من إيران، لجهة تحديد أو تحجيم نفوذها ودورها في الصراع السوري، حتى ولو جرى ذلك فقط في معرض الحديث عن تأكيد الالتزام بمنطقة “خفض التصعيد” في جنوب غرب سوريا.
ويمكن اعتبار أن هذه المسألة هي الأهم والأبرز في البيان، بدليل أنها احتلت ثلثه وذُكرت مرتين في فقرتين منفصلتين. وبديهي أن المقصود بهذا الأمر عدم تمكين إيران -والميلشيات التي تتبع لها مثل حزب الله وفاطميون وزينبيون وحركة النجباء وكتائب أبو الفضل العباس- من الاقتراب من الحدود الجنوبية قرب إسرائيل والأردن.
إيجابيات مهمة للبيان
يجدر لفت الانتباه هنا إلى أنه في بيانات مثل هذه لا يمكن الحديث عن طرف غالب أو مغلوب، لأن هذه البيانات تنبني على التوافق والتنازلات المتبادلة، مع أخذنا في الاعتبار أن واشنطن تتصرف وكأنها صاحبة اللعبة، وأن موسكو مهما دمرت وقتلت فلن يمكّنها ذلك من تحديد مصير سوريا.
بل إن الاستمرار على هذا المنوال قد يورّطها أكثر في الصراع السوري، ويفاقم مشكلاتها مع العالم (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، أسعار النفط، العقوبات التكنولوجية) بدل تسهيل حلها، إذ إن روسيا هي المستعجلة هنا وهي المتورطة، وهي التي تُستَنزف وليس أميركا؛ ولذا فهي تبدو صاحبة المصلحة في إيجاد حل للصراع السوري.
وثمة إيجابيات في هذا البيان وسلبيات. أما الإيجابيات فيمكن تمثلها في تأكيد البيان على الجوانب المهمة الآتية:
1- تثبيت مرجعية مفاوضات جنيف لأي حل سياسي سوري، فقد ورد ذلك مرتين في النص القصير. وتأكيد أن هذا الحل يجب أن يتأسس على القرار 2254 (عام 2015)، وقد ورد ذلك ثلاث مرات، علماً بأن القرار المذكور يتضمن النص على الالتزام ببيان جنيف (عام 2012)، وقرار مجلس الأمن 2118 (عام 2013).
ورغم أن هذا يفتح الباب لاجتهادات متضاربة؛ فإن ذلك بمثابة تحصيل حاصل، إذ إن الصراع الميداني أو المعطيات الدولية لصالح هذا الطرف أو ذاك هي التي ستحدّد شكل الحل السوري، وليس مجرد نص سواء أكان على شكل قرار دولي أم توافقات ثنائية بين دولتين.
2- شدد البيان على تغيير الدستور، وليس تعديله كما يطالب به النظام، وكما حاولت روسيا مراراً؛ وهذه مسألة مهمة، علما بأن ذلك ورد مرتين في البيان.
3- ثمة نص واضح على “الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب في المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة”، وذلك في منطقة جنوب غرب سوريا. وهذا نص يمكن البناء عليه في المناطق الأخرى، لإخراج القوات الإيرانية والميلشيات التابعة لها.
4- يحتمل البيان نوعاً من التوافق الأميركي/الروسي على تحجيم نفوذ إيران، وهذه مسألة في غاية الأهمية، إذ إن هذه الدولة باتت من أهم محركات الصراع السوري، ناهيك عن دورها في تقويض بنى الدولة والمجتمع في المشرق العربي، ولذا فإن أي تحجيم لدورها ومكانتها يصبّ في صالح السوريين ولا يخدم النظام.
5- تم التأكيد في البيان على وحدة سوريا والحفاظ على أراضيها، ما يعني أنه لا توجد أي مخاطر تتعلق بالتقسيم، وهو ما يُفترض بالأطراف المعنية ملاحظته والبناء عليه لتوثيق علاقاتها البينية، وضمن ذلك استعادة الثقة العربية/الكردية.
قراءة في السلبيات
أما من ناحية السلبيات -أو الثغرات- الكامنة في البيان فيمكن إيراد الملاحظات الآتية:
1- ينمّ نص البيان عن لامبالاة أميركا بالكارثة السورية، وعن استمرار موقفها القائم على الحفاظ على الواقع الراهن، مما يعني ديمومة الصراع بين النظام والمعارضة وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، مع ترك روسيا تتحكم في إدارة دفة الأمور في المدى المنظور.
2- إن قصر الحديث في البيان على جنوب غرب سوريا يعني أن “القطبة المخفية” في الصراع السوري -وهي إسرائيل- باتت من أهم محددات مآلات الحل السوري.
كما يعني ذلك أن الولايات المتحدة لا تولي المناطق الأخرى -لا سيما المدن الرئيسية- ذات الأهمية التي توليها للجنوب “من أجل عيون إسرائيل”، أو في الشرق حيث باتت تبني قواعدها العسكرية هناك، مع رعايتها لقوات سوريا الديمقراطية التي تتألف قاعدتها الرئيسية من الكرد.
3- لعل أهم نقطة سلبية -في نص البيان- تتمثل في أن الحلول المطروحة لا تأخذ في اعتبارها مسألة الانتقال السياسي، بقدر ما تأخذ فيه استعادة الاستقرار وإعادة بناء البلد والدولة، وهذا هو معنى الحديث عن تسوية.
ويُستنتج من ذلك أن الدول المعنية أو المقرِّرة في الصراع السوري لا تتصرف وفقاً لمقاصد الثورة السورية، التي انطلقت من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، إلا بقدر ما يناسب ذلك استعادة الاستقرار في سوريا وتكييفها مع المعايير الدولية.
وهو الأمر الذي تتحمل مسؤوليته المعارضة السائدة بهيئاتها الرسمية المعترف بها، إن بسبب ضعفها وتشرذمها وارتهاناتها الخارجية، أو بسبب مجاملتها للخطابات الطائفية والدينية على حساب المقاصد الأساسية للثورة، طوال السنوات السابقة.
4- لا توجد في البيان أي كلمة عن وقف العمليات القتالية، ولا سيما وقف القصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية، ولا إخراج القوات والميلشيات الأجنبية من سوريا، بما يتناسب مع الكلام عن مكافحة الإرهاب، وعن إخراج القوات الأجنبية (دون تسميتها) من جنوب غرب سوريا.
5- إن الفقرة التي تتحدث عن التزام الرئيس الأسد بعملية جنيف والتغيير الدستوري والانتخابات، قد توحي بتعويم أو عدم حسم الموقف من نظام الأسد، في حين أنها قد تعني أيضاً إلزامه بعملية جنيف والتغيير الدستوري، أي أن الغموض قد يخدم روسيا والنظام إذا ظلت واشنطن على موقفها الحالي.
ويمكن أن يبرر للولايات المتحدة تشددها من النظام إذا وصلت إلى النقطة التي تتطلب منها حسم موقفها من الصراع السوري، وهو ذات الموقف الغامض من الانتخابات، إذ لم يتم تحديد ما إن كانت انتخابات تشريعية أم تشريعية ورئاسية في آنٍ معاً.
باختصار.. ومع بيان كهذا، ومع تردد الإدارة الأميركية وتغول التدخل الروسي في سوريا، إضافة إلى الدور الإيراني لصالح النظام؛ فإن السوريين سيبقون -على الأرجح- في هذه الدوامة الكارثية، مما يفرض على المعارضة إدراك المخاطر الناجمة عن كل ذلك، ووضع الإستراتيجيات اللازمة لمواجهتها، أو -على الأقل- تفويت الأثمان الناجمة عنها.
عذراً التعليقات مغلقة