نعيش اليوم في سوريا نتائج الحملة الأمنية الواسعة في ثمانينات القرن المنصرم، الحملة التي شنت على أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي المعارض لنظام حافظ الأسد الاستبدادي، كانت نتائجها وخيمة على سوريا والمجتمع السوري، ويمكن تلمّس هذه النتائج من خلال انحراف ثورة الحرية عن أهدافها الرئيسية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والفوضى الأمنية الواسعة في سوريا سواء بمناطق سيطرة النظام أو الخارجة عن سيطرته.
لقد أدى هذا الفعل لإنهاء اصطفاف المجتمع السوري على أسس سياسية، ليبدأ الفرز على أسس ما قبل سياسية، مذهبية ودينية وقومية ومناطقية وعشائرية و…. ، وشجع النظام على هذه الانقسامات وحرض عليها، من أجل السيطرة على المجتمع عبر السيطرة على رموز هذه التكوينات.
في حمص مثلاً توجد مقبرة تسمى الكثيب، وهي تضم رفات صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبعض كبار رجال الدين الحماصنة، وكلما ذهب الناس للمقبرة كانوا يجدون شواهد القبور وبنائها قد هدمت، كما كانوا يجدون برازاً بشرياً على قبور رجال الدين المدفونين في تلك المقبرة، وكانت الاتهامات بهذا الفعل تنساق إلى قاطني الأحياء المجاورة من طوائف أخرى (علوية وشيعية و…)، كما أن ممارسات الأجهزة الأمنية وخصوصاً تقصدها التلميح دوماً لطائفة الأسد، زادت من الاحتقان الطائفي المذهبي، وشجعت المجتمع على المزيد من الانقسامات.
فيما بعد وبعد انطلاق الثورة انتبهت لأن هذه الممارسات لم تأت عبثاً إنما كان مخطط “مخابراتياً، وهدفها زيادة الاحتقان الطائفي والمذهبي، وهذا ما سهل على الأسد السيطرة على المجتمع المنقسم على نفسه، وسهل عليه توريط السواد الأعظم من فقراء الطائفة العلوية في حربه المجنونة على الشعب السوري فيما بعد، في سبيل الحفاظ على كرسي حكمه، وامتيازات شركاءه الموجودين في السلطة والمدعومين من كبار رجال الأعمال السوريين وهم (الموجودون في السلطة ورجال الأعمال) من جميع طوائف ومكونات الشعب السوري.
هذا التطور وغياب السياسة وسيطرة عناصر المخابرات على المجتمع أدى لهروب رؤوس الأموال وتوقف حركة الصناعة، لأن عناصر المخابرات (السلطة) أرادوا الهيمنة أيضاً على رؤوس الأموال ومشاركة أصحابها بها، مما أدى لخروجها خارج سورية وازداد الفقر وكما قلت في مقالة سابقة فقد كان معيار تحقيق الثراء هو القرب من السلطة، وكلنا يعلم حجم الاحتكارات والامتيازات التي تعطى لفلان أو فلان من أزلام السلطة وكم جنوا من أموال طائلة نتيجة معلومة كعلمه بأنه ستصدر قوانين خاصة بالسماح باستيراد أو منع استيراد مادة ما، أو حتى الاتفاق مع السلطة على السماح أو منع استيراد أو تصدير مادة ما، بما يتوافق مع مصالحه التجارية وليس مع مصالح الوطن الاقتصادية، ونعلم كيف دمرت العديد من الصناعات الناشئة التي لم تحمى بعد السماح بالاستيراد لمنتجات تنافس هذه الصناعات.
هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي أوجده نظام العسكر ثم حافظ الأسد وأجهزة المخابرات المختلفة، هذا الوضع الذي شجع على الفساد ودمر الطبقة الوسطى الحامل الأساسي لنهضة أي بلد وشجع طبقة “الحرافيش” الطبقة الدنيا من المجتمع على الانتشار في المجتمع، فأصبح عنصر الأمن الذي يحمل الشهادة الاعدادية وهو شخص جاهل لا يفقه شيء فاعلاً في المجتمع، ومرجعاً للكثير من أبناء الوطن كي يمكنه حل مشكلة ما استعصت عليهم، ولم يعد للمثقف احترامه في المجتمع، وانتشرت اللصوصية والاجرام واختلفت معايير تقييم الانسان، فأصبح من يملك المال ومن هو قريب من السلطة رغم جهله وغبائه أهم من الكتاب والمثقفين والكثير من خريجي الجامعات السورية الذين جاعوا وهم يقفون في طوابير يبحثون عن فرصة عمل أو فرصة لإثبات ذاتهم، وأصبح حلم الكثير منهم الهروب من هذا الواقع لخارج سورية، لدولة خليجية ما.
هذا الجيش الكبير من العاطلين عن العمل المقهورين، والمغيبين عن أي فهم سياسي، ومن المخبرين ومن عناصر الأمن والمجرمين واللصوص، كان جاهزاً للانقضاض على الدولة والتعبير عن أنفسهم بشتى الأشكال التخريبية للدولة المجتمع في اللحظة التي ترخي فيها السلطة قبضتها، وهذا ما كان حين ضعفت القبضة الأمنية بعد أشهر من الثورة.
Sorry Comments are closed