مع أن موسكو قررت تغيير اسم المؤتمر الذي تنوي استضافته في سوتشي، إلى مؤتمر «الحوار الوطني السوري» بدلاً من مؤتمر «شعوب سورية»، فإن الاسم المقترح بدايةً بقي طاغياً لجهة التداول، سواءً على سبيل استنكاره أو في معرض الإقرار بوجاهته. أما طموح موسكو من خلال توجيه هذا العدد الضخم من الدعوات فهو لم يتزحزح عما سبق، متعيناً بتفريغ معارضة النظام من أحقيتها، وإغراق الصراع الأساسي بتباينات وتفاصيل أصغر لمصلحة طمسه نهائياً.
صحيح أن وزير الخارجية الروسي صرح بأن المؤتمر المقبل لن ينافس جهود الأمم المتحدة، إلا أن حكومته لا توحي أدنى إيحاء بأنها في سبيل لجم طموحاتها لتتأقلم مع الدور المأمول منها. فالدور الروسي في حد ذاته لم يعد مثار خلاف دولي أو إقليمي، والنفوذ الروسي في سورية لا يلقى مقاومة من مجمل القوى الخارجية، بل هو نفوذ له زبائن كبار إذا أتى على حساب النفوذ الإيراني، وإذا أطاح عائلة الأسد بوصفها الوجه الأقبح الذي يصعب على تلك القوى تحمل مسؤولية بقائه.
لعل الدور المطلوب من موسكو يتطلب منها عقد مؤتمر «شعوب الأسد» بدل الذي تزمع عقده، هذا هو الدور المقبول بدل الإصرار الروسي على أسطوانة تشتت المعارضة وضرورة توحيدها. فهذه الأسطوانة فيها من الخبث ما يكفي ليفسد ما فيها من الحق. ثم أنها تضمر دائماً تماسك وصلابة مقلب الأسد، وهي نتيجة تؤخذ للدلالة على مقدماتها بخلاف المنطق الاستقرائي السليم، إذ لا تلحظ قوة القهر الاستثنائية التي لا يزال الأسد ممسكاً بها في مناطق سيطرته جراء تحكمه بكافة مفاصل السلطة.
بينما التسوية الدولية التي تحفظ ماء وجه الجميع تقوم أساساً على الفصل بين الأسد وكتل مؤيديه، مع الفصل بين الأسد ونظامه، أي انتشال الأخير بعد الانحطاط الذي وصل إليه ليصبح تنظيماً للشبيحة. موسكو هي الطرف الوحيد المرشّح للقيام بعملية الفصل هذه ضمن المعطيات الحالية، على رغم المقاومة الإيرانية المتوقعة، فهي القوة الوحيدة القادرة نظرياً على التفاوض مع الكتل الموالية، وعلى مساعدتها من أجل بلورة بدائل تضمن مصالحها في غياب الأسد.
التغيير، في حده الأدنى، لن يكون متاحاً من دون ذلك الفصل، أي من دون الاستغناء عن عائلة الأسد كرمز اضطراري لمصالح الموالاة. بهذا المعنى، هناك حاجة ليفاوض الموالون من أجل الحفاظ على مصالحهم، أو لتطويعها مستقبلاً مع مصالح سوريين آخرين، بالأصالة عن أنفسهم، وبلا خوف من سلطة الأسد الحالية، وبلا مخاوف متخيَّلة أو حقيقية من البديل. هذه حاجة سوريّة في الأساس، وهي في صلب التحول الديموقراطي المأمول على طرفي الصراع الذي أحدثته الثورة، والذي من دونه يصعب العبور إلى مستقبل سلمي وآمن.
ليست المسألة، كما يتم تصويرها طوال الوقت، في أن كتل الموالاة تجد مصلحتها مع الأسد بينما تخشى البديل. قد يصحّ ذلك على الكتلة المنخرطة بنشاط في جرائم الأسد خلال السنوات الأخيرة. وهذه شأنها شأن الأسد نفسه، مهددة بالمثول أمام العدالة وليست مهددة في مصالحها «المقبولة» اجتماعياً أو اقتصادياً. وضع جميع الموالين في سلة واحدة يمسك بها الأسد كان منذ البداية مصلحة للأخير، مثلما انزلق إليه بعض المعارضة الذي فهم تعبير «البيئة الحاضنة» على غرار فهم بشار عندما تحدث عن «مجتمعه» المتجانس.
لم تكن المسألة أيضاً كما جرى تبسيطها في مقولة «عجز الثورة عن تقديم تطمينات كافية للموالين»، لأن هذا التبســيط يتـــجاهل عوامل الارتياب بالآخر والخوف من المخاطرة والتغيير، وهي جميعاً تصب في مصلحة القوة المعروفة سلفاً والممسكة بالواقع. ربطاً بالانقسامات السابقة على الثورة واللاحقة، يجوز القول أن التطمينات المؤثرة ما كانت ممكنة إلا من طرف دولي تفوق قوتُه سلطةَ الأسد، وما حدث منذ التدخل الإيراني المبكر أن الأسد استمد مكانته لدى مواليه من اعتماده إيرانياً ثم روسياً، أي أنه لم يعد ذا قيمة يُعتد بها لذاتها، ويكفي رفع الغـــطاء عـــنه كوســـيط ليفكر الموالون بالبدائل المناسبة لمصالحهم.
تمكين الموالين على هذا النحو سيمنع تلقائياً بروز أسد جديد، لأنه سيكشف تباين المصالح في مقلب الموالاة، مثلما هي متباينة في المقلب الآخر. شعب الأسد «المتجانس» سيتكشف عن شعوب وفق المفهوم الروسي، والتحدي الذي يجدر بموسكو أن تضعه لنفسها ليس الحديث الذي تم تداوله سابقاً عن مؤتمر يُعقد في سورية، وتضمن فيه سلامة من قد يشارك من المعارضين، وإنما عقد مؤتمر تمثيلي لمجتمعات الموالاة في أي مكان، وتقديم ضمانات حقيقية للمشاركين، حيث لا ضمانة لها قيمة مثل إبلاغهم بأن حقبة الأسد انتهت، وبأنهم صاروا في حلٍّ من تكرار ما يريد منهم قوله.
قد يبدو هذا السيناريو بعيداً جداً عن الواقع، لكن تفاهماً مبدئياً شبيهاً به كان أُقرّ من قبل، تعمل بموجبه الدول الراعية للمعارضة على توحيدها وتأهيلها للتسوية، بينما تعمل موسكو على تأهيل «النظام»، وعلى القاعدة التي كانت تعلنها بالقول أنها معنية ببقاء مؤسسات الدولة السورية لا ببقاء أشخاص.
سلوك موسكو التوسعي في ما بعد جعلها تطمح إلى تأهيل معارضة على مقاسها، طالما أنها لا تُقابل بمقاومة من الطرف الآخر، جنب إلى جنب مع إهمال واجبها في تأهيل النظام الذي تعهدته. هي بالأحرى تحرص على وزنها كدولة احتلال تقليدي أكثر مما تعمل على نفوذ مستدام، إذا قلنا أن استدامة الأخير تتطلب تمثيلاً أفضل لطالبي حمايته.
إن التلطي الروسي الحالي وراء قسمة «منتصر ومهزوم» بين السوريين لن يكون فقط على حساب المعارضة وما تمثّل. هو استمرار لوعد الأسد مواليه بانتصارات جرّت عليهم الويلات بشرياً ومعيشياً. لا معنى لنصر لم يحقق من خلاله الموالون شراكة أكبر في السلطة، فضلاً عن الانحدار في المستوى المعيشي الذي طاول غالبيتهم. للمفارقة، النصر الممنوع عن الموالين من قبل النظام ثم حلفائه هو ذاته الذي ساهموا بمنعه عن سوريين في الطرف الآخر، الأمر الذي لا ينبغي أن يكون مدعاة للشماتة، إذ لم يكن منتظَراً في أي وقت ارتقاء تنظيم الأسد حتى إلى ديموقراطية الفصل العنصري.
عذراً التعليقات مغلقة