على مدى تاريخ المجتمعات وتطورها، تكون الثوراتُ نابعةٌ من رغباتٍ وحاجاتٍ اجتماعيّةٍ وإنسانيّةٍ بالتغيير في المجتمعِ نحو الأفضل.
تمرّ المجتمعات بمراحل حياتيةٍ كمراحلِ حياة الإنسان في التكوين، من مرحلةِ الجنين إلى الطفولةِ فالشبابِ فالنضوجِ فالشيخوخةِ، فالموتِ وتراكمِ الأمراض الاجتماعيّة هي نتيجةٌ طبيعيّة، لذلكَ تأتي الثوراتُ أو موجاتُ التغيير في المجتمع كردّة فعلٍ طبيعيّة لإعادةِ إنعاش المجتمع.
لكلّ ما تقدم فإن الثورات هي نتيجةٌ طبيعيّةٌ لحركةِ المجتمع بكلِ مستوياتهِ ،الاقتصاديّة والإنسانيّة والثقافيّة، وخيرُ من يُعبّر عن هذه الحركة وحدودها وطريقة تحقيقها هو المجتمعُ ذاتُهُ، وليس لمجتمعات أُخرى أن تقررَ طبيعةَ التغيير المنشود، وكيفيتهُ بمعزَلٍ عن التأثيراتِ الخارجيّةِ إلا بالقدرِ المنطقي، والذي يدعمُ حركة التغيير بإطارها الإنساني العالمي.
فقبل انطلاق الثورات في عالمِنا العربي ومنها الثورة السورية كان هناك مخاضٌ كبير في مجتمعاتنا ينتظرُ لحظة الولادة، وهو مؤمنٌ بأنّ الولادة قد حانت، فانطلقت الثورة بأسبابٍ مباشرةٍ بسيطةٍ (كحادثة محمد البوعزيزي أو حادثة أطفال درعا …..الخ)، ولكن الأسباب الحقيقيّة هي الأسباب الكامنة التي تشكّلت على مدى نصف قرن من الأمراض الاجتماعيّة والسياسيّة نتيجة الاستبداد.
انطلقت الثورة بعفويتها وبأجندتها الوطنية الخالصة عاكسة صورة المجتمع وأهدافه في التعبير الديمقراطي، فكانت شعارات رجالات الثورة وشبابها تعكس هذه الروح بوحدة الوطن ووحدة الشعب ووحدة الحق بالحياة الكريمة للشعب السوري ((واحد واحد ….الشعب السوري واحد …..الشعب والجيش أيد وحدة …….. لا إخوان ولا سلفية الشعب بدو حرية …….)).
وتفاعلَت الأحداث بهذا الاتجاه، فكانت هناك مشاركة شعبيّة كبيرة في الثورة من جميع مكونات المجتمع وطوائفه، فمِن الشهيد مشعل التُمو إلى فدوى سليمان إلى الأب باولو وأبو الفرات والشيخ ناصر الحريري. فشهدت هذه المرحلة موجات من الانحياز لمطالب الشعب من مُنتَسِبي الجيش والوظائف الحكومية نتيجة الخطاب الشعبي الوطني المتوازن، مَن منّا لا يذكر شهيد الورد “غياث مطر”؟ الذي واجه رصاص الجيش بالأزهار وعبوات مياه الشرب والمحبة، والذي استطاع استِمالة بعض الجنود إلى صف الثورة؟
وبهذه الطريقة استطاعت الثورة أن تجتاح قلوب غالبية أبناء الشعب واتسعت لتشمل كُل بقعة في سوريا، غير مبالية بآلة القمع الاستبدادي الوحشي، ومع دخول الثورة مرحلة التسليح (الكفاح المسلح) نتيجة التغوّل في انتهاج القتل والتعذيب بحق أبنائها من قبل سلطة الأمر الواقع، بدأنا نشاهد ضمن الثورة بوادِر تمايُز لتيارات سياسية وفصائل عسكرية، تبعاً لجهة الدعم والتمويل، وتعزّز هذا شيئاً فشيئاً نتيجة عدة أسباب منها :
1- خِشية العالم من إسقاط النظام بالشكل السريع المتوقع، وما يمثلهُ هذا النظام من أهمية كُبرى لمعظم دول منطقة الشرق الأوسط وبعض دول العالم، كونه الضّامن لمصالحهم الإستراتيجيّة.
2- رغبة بعض تيارات المعارضة الخارجيّة بإحراز مكانة لها في قيادة المرحلة، ظناً منها أن سقوط النظام قد يكون وشيكاً، كما الأنظمة التي سبقته في تونس وليبيا ومصر، وعليها الإسراع بشراء ولاءات الداخل لضمان مكانة لها في قيادة المرحلة اللاحقة.
3- الرغبة الدوليّة والإقليميّة بتوظيف الثورة وأحداثها من أجل خلق أوراق سياسية خاصة بهذه الدول، ودعم تيارات مرتبطة بهذه الدول.
4- فقدان النظام القرار الوطني بعد أن تمكنت الأذرع الإيرانيّة من مفاصل الدولة، تبعها السيطرة شبه الكاملة للجانب الروسي على مجمل القرار السياسي والعسكري للنظام.
5- ظهور تنظيم (داعش) الذي تم توظيفه واستثماره بشكل كبير، لتفتيت الوحدة الوطينة واستعداء العالم على الثورة، وتمرير مصالح جميع الدول ونزع صفة الثورية والديمقراطية عنها.
لذلك خسرت الثورة هويتها الوطنية وتشتّتت الرؤى، وأصبحت قضية الوصول بالثورة إلى هدفها أمراً ثانوياً بالنسبة للفصائل والتيارات السياسية التي أصبحت مقيدة بأجندة لا وطنية، والحال هكذا لايمكن العودة بالثورة إلى جادة الوطنية الخالصة ما لم يتم التخلص من المصالح والأجندات اللاوطنية أو التحرر منها قدر المستطاع والالتفاف حول مفهوم الوطن الحر الكريم للجميع.
عذراً التعليقات مغلقة