عمل العسكر في سوريا منذ انقلاب 1963 على تجميد المجتمع السوري ومنعه من التطور الطبيعي كأي مجتمع طبيعي، وكنت قد ذكرت في المقالة الماضية (لماذا يمنع نجاح الثورة السورية ؟)، كيف أن الموقع الاستراتيجي لسوريا وواقع الشعب السوري وتنوعه والحضارة التي تأسست بسبب هذا التنوع والجمالية، فرضت على القوى العالمية السعي لمنع الشعب في سوريا من نيل حريته، وسأتابع اليوم في تطورات الوضع في سوريا منذ انقلاب آذار 1963.
في ذلك الوقت – قبيل الانقلاب – كان المجتمع السوري لايزال يعيش في مرحلة الاقطاع، إذ كان القطاع الزراعي يشكل معظم النشاط الاقتصادي السوري ويعمل بها 75% من الشعب، وشهد نهضة كبيرة على يد التجار الذين استثمروا في الزراعة، واستصلحوا أراضي واسعة، معتمدين على الماكينة الزراعية الحديثة، ثم بدأت الصناعات التي تعتمد على الزراعة، تنتشر فازدادت مصانع حلج القطن، ومصانع النسيج، والسكر وغيرها، كما دخلت الصناعات الثقيلة كمصفاة حمص في عهد الوحدة مع مصر، ووضعت في ذلك الوقت الخطط ووقعت العقود لإنشاء مصانع الأسمدة بحمص، وبدأت تتشكل وتظهر البرجوازية السورية شيئاً فشيئاً، وكانت الأحزاب السياسية في ذلك الوقت تمثل الطبقة الإقطاعية الغنية وكانت لا تزال ضعيفة، وكان ثقلها الانتخابي في المدن الكبيرة، ولم يكن لها انتشار كبير في المدن الصغيرة والأرياف التي كانت تنتخب المستقلين، وهم في غالبهم من الزعماء المحليين والإقطاعيين الصغار مالكي هذه الأراضي، وكان لهم دور كبير في البرلمان السوري في ذلك الوقت، ومن هؤلاء أسس خالد العظم كتلة برلمانية قوية أسماها (الكتلة الدستورية)، ولم يبحث البرلمانيون السوريون عن مصالح الفئات التي تمثلهم، بقدر بحثهم عن حماية مصالحهم الإقتصادية.
تقدم المجتمع السوري نحو الصناعة، وبالتالي نحو المجتمع الرأسمالي كان بلا شك سيفرز أحزابه التي تمثل مصالحه، ورغم وجود وانتشار الأحزاب العقائدية كالإخوان والبعث والشيوعي والقومي السوري منذ العشرينات – تأسس الحزب الشيوعي السوري في بداية عشرينات القرن الماضي – إلا أنه لم يكن منافساً قوياً للقوى الاقطاعية التقليدية آنذاك، وكان من المفترض أن حركة تطور المجتمع ستفرض بالتأكيد حالة من النهوض السياسي، وتغير في الذهنية السورية، لتبعد القديم المتمثل في الزعامات المحلية وقوى الاقطاع، وتظهر مكانهم قوى تعبر عن مصالح الطبقات الاجتماعية المولودة جديداً.
كان هذا الحراك السياسي الاقتصادي يبشر بمستقبل واعد لسوريا، لكن الضباط القادمون من أصول ريفية الحاملون في قلوبهم الحقد على الطبقة الإقطاعية الغنية، انقلبوا على المجتمع والدولة، وتم تجميد تطور المجتمع السوري عبر قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وحلّ الأحزاب، وملاحقة وسجن السياسيين، ومصادرة الصحف، ومنع أصحاب الأقلام الحرة من الكتابة و… .
باختصار وضع انقلاب الثامن من آذار 1963 المجتمع السوري في الثلاجة في مرحلة الإقطاع، وتم تجميد تطور المجتمع السوري، وبهذا كانت الأحزاب السياسية الحالية والتي تبقت من القمع الشديد الذي تعرضت له، تعبر عن حالة الإقطاع السياسي بطريقة أو أخرى، وانتقلت ظاهرة الزعماء الإقطاعيين والزعماء المحليين ليصبح في سورية نوع جديد من هذه الزعامات، الزعامات التاريخية التي تربعت على عرش هذه الأحزاب طيلة سنوات طويلة ولم يتم ضخ دماء جديدة فيها، بل كانت مجمدة وتوقفت عن التطور مثلها مثل المجتمع السوري، ولهذا نرى أنها في حالة انقسام وتشظي ولم تستقر حتى الآن.
بعد انقلاب حافظ الاسد على مقررات حزبه “حزب البعث” وسجن قيادته، قام بتشكيل جبهة وطنية تقدمية من هذه الزعامات، التي رضيت بما سيقدمه لها من فتات السلطة، ومزايا الحكم، دون أن يلغي حالة الطوارئ، ويوقف قانون الأحكام العرفية، ولم يصدر قانوناً للأحزاب ينظم الحياة الحزبية والسياسية في البلد، ويرخص لحزبه وللأحزاب المتحالفة معه في السلطة، ولم يصدر قانوناً إعلام يسمح بإصدار الصحف، حتى أنه منع الأحزاب المتحالفة معه في الجبهة الوطنية التقدمية من إصدار صحفها الخاصة، وبهذا بقيت الأمور على حالها، ولم يتغير شيء سوى في التحالف الذي تم بين حافظ الأسد وطبقة التجار التي تضررت من قوانين صلاح جديد التي تنتمي لليسار الراديكالي، فقام حافظ الأسد بعد انقلابه في عام 1970 على رفاقه في حزب البعث، وعلى مقررات الحزب بالتحالف مع تجار دمشق وحلب الذين أيدوه في انقلابه، وتقاسموا منافع وميزات القرب من السلطة، وشيئاً فشيئاً بدأت تنمو طبقة البرجوازية الطفيلية نتيجة تجميد تطور المجتمع السوري، هذه الطبقة التي كونت الثروات بسبب قربها من السلطة، وليس بسبب أعمال تجارية قاموا بها، وفتح الباب واسعاً أمام سيطرة الشخصيات الأمنية والعسكرية، وهي السلطة الحاكمة التي تحالفت مع التجار، والتي حققت ثراءاً فاحشاً بسبب هذا التحالف والفساد.
وتحول حكم العسكر واحتكاره للعمل السياسي، وتجميد المجتمع السوري من التطور عن مرحلة الاقطاع إلى مرحلة الرأسمالية والصناعة، عبر الاستمرار في منع قواه السياسية والحزبية من الحركة، وبالتالي أفرز هذا التجميد حكم الاقطاعي الأكبر في سوريا، حكم عائلة الأسد، واضعاً في الواجهة حزب البعث الذي قام حافظ الأسد بسجن قيادته واغتيال وتصفية من استطاع الهروب منهم خارج سوريا ..
استطاع حافظ الأسد بسبب تجميد تطور المجتمع السوري وعدم وجود حركة سياسية نشطة من تقسيم الأحزاب المتواجدة معه في الجبهة الوطنية التقديمة واحتواءها وإضعافها، ودفع بالانتهازيين منها لقيادتها، وأغرقهم بنعيم السلطة وملذاتها، فبدلت هذه الأحزاب من شعاراتها ووظائفها وقدمت المهمة الوطنية (القضية الفلسطينية وتحرير الجولان) على باقي المهام التي يجب أن يقوم بها الحزب السياسي، وتخلت عن دورها السياسي ومهمتها في تمثيل مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة الموجودة في المجتمع، رغم عدم وجود أية ملامح لتنفيذ هذه المهمة الوطنية، بل على العكس، كانت كل المؤشرات تؤكد بعده عن هذه المهمة، واستثمارها والمتاجرة بها سياسياً، مما أدى لزيادة الضعف في الحياة السياسية السورية، وتجميد المجتمع السوري وتعقيمه ومنع قواه الحية من الحركة واختفاء السياسة من المجتمع، وبهذا تجمد تطور المجتمع السوري عند مرحلة الاقطاع، ونجم لدينا كما ذكرت حكم عائلة الإقطاعي الأكبر حافظ الأسد في سوريا.
- حكاية سوريا: سلسلة مقالات تستعرض ملامح ورؤى من التاريخ البعيد والقريب لسوريا، يمكن من خلالها فهم أسباب ما يجري من حروب ودمار على أرضنا، حسب وجهة نظر كاتبها.
Sorry Comments are closed