محمود بكور – حرية برس:
أبو سليم رجل في السبعينات من العمر ينحدر من أسرة ريفية فقيرة تعمل في الزراعة، أمضى عمره في رعاية أبنائه السبعة وتربيتهم إلى أن اشتد عودهم وتزوجوا وأصبح لديهم أولاد، ليشاء القدر أن يحرمه منهم.
فقد أبو سليم ابنه الأول أحمد وهو مهندس مع بداية الثورة في عام 2011، استشهد أحمد برصاص قناص من قوات الأسد أثناء توثيقه بعدسة هاتفه لحظة اقتحام الدبابات والآليات العسكرية لمدينتي تلبيسة والرستن، تم حرمان أبو سليم من إلقاء النظرة الأخيرة على ولده، حيث اختطفت قوات الأسد جثمان أحمد وأودعته في المشفى العسكري بحمص، بعد محاولات كثيرة وافقت الأخيرة على تسليم الجثمان شرط عدم إقامة مراسم دفن له.
لم تمض أيام قليلة حتى فقد أبو سليم ولده الأصغر محمود أثناء دفاعه عن مدينته تلبيسة، وذلك خلال اقتحام قوات الأسد للمدينة واعتقال المدنيين وتنفيذ إعدامات ميدانية، حيث تم نصب كمين له ولعدد من المنشقين عن قوات الأسد واستهدافهم بقذيفة مدفعية، عقب محاولتهم صد التقدم وقتل قائد عملية الاقتحام، وتم التمثيل بجثثهم ورميها في أحد شوارع المدينة لترهيب المدنيين.
دفن أبو سليم ابنه بسرية تامة مخافة من قوات الأسد التي تمركزت في المجمع الرياضي في الطرف المقابل لمدينة تلبيسة.
عقب ذلك أخذ زكريا، ابنه الثالث، على عاتقه الدفاع عن المدنيين بحمل السلاح، وعند توجه مليشيا موالية للأسد من قرية جبورين بريف حمص الشمالي إلى مدينته تلبيسة واقتحام المنازل وسرقتها، قام ورفاقه بهجوم على الحاجز الذي تمركزوا فيه، وأوقعوا العديد من القتلى والجرحى في صفوفهم فضلاً عن تحرير الحاجز، لتأتي على خلفية ذلك تعزيزات عسكرية وآليات ثقيلة إلى المنطقة، قاوم زكريا ورفاقه الهجوم وأجبروا الرتل على التراجع، وأثناء انسحاب الثوار استشهد زكريا برصاص رشاش أحد العناصر ولاقى جسده المصير نفسه الذي لاقاه جثماني أخويه.
لم يتفاجأ أبو سليم قط عندما أتاه خبر استشهاد ولده، وكأنه يعلم بذلك، قال: أيّ منهم؟ … أجابوه زكريا … فحمد الله بقلب يمزقه ألم الفراق، شيّع بعدها أهالي المدينة زكريا وشهيد آخر.
عبد الكافي، الابن الرابع، كان ممرضاً في إحدى المشفيات الحكومية، عمل منذ بداية الثورة على إسعاف الجرحى رغم الإمكانيات البسيطة، كما كان أحد المؤسسين لأول نقطة طبية في تلبيسة، وخلال اشتباكات بين الثوار وقوات الأسد ووسط قصف عنيف على المنطقة، شن الثوار هجوماً على الحواجز التي تتمركز فيها قوات الأسد في محاولة منهم لفك الحصار عن المدينة، كان عبد الكافي من بين الملتحقين بركب الثوار للمشاركة في هذه العملية التي كان يقودها “أبو حاتم”، وهو أخ عبد الكافي الذي استشهد يومها، تلقى أبو سليم خبر استشهاد ولده الرابع وكأنه كان ينتظر ذلك.
بقلب مؤمن ردد أبو سليم قائلاً “إنا لله وإنا إليه راجعون” .. “حسبي الله ونعم الوكيل ولاحول ولاقوة إلا بك يارب اللهم لك الحمد”.
بعد أشهرٍ قليلة على تحرير مدينة تلبيسة وريف حمص الشمالي، شكّل سليم الإبن الأكبر مجموعة من الثوار وبدأ يشن غزوات سريعة على الحواجز المحيطة في المدينة والتي تبعد حوالي 2 كم إلى الغرب من تلبيسة، وكان ينصب الكمائن لعصابات الأسد وقتل منهم العشرات.
في إحدى الكمائن شاهد سليم حافلة تقلّ عناصر من قوات الأسد مقبلة عليهم، نجح ورفاقه بإحكام الكمين وأسر 6 من العناصر، لكن رصاصة غادرة أتته من الخلف من جندي كان مختبئاً خلف أحد المقاعد.
لم يبقَ لأبي سليم سوى ولد في المعتقل لا يعرف عنه شيئاً، وآخر هو محمد المكنّى بأبي حاتم، يدافع أبو حاتم عن المدينة مشكلاً مع مجموعة كبيرة من الثوار سرية الشهيد محمود الضحيك، والذي خاض معارك عدة، ازداد عدد عناصر السرية وأسّسوا كتيبة الفاروق في تلبيسة، التي خاضت أيضاً عدة معارك في الريف الشمالي وكبدت قوات الأسد الكثير من الخسائر في الأرواح والعتاد، ليؤسس عقب ذلك “لواء الإيمان” الذي شمل كتائب بريف حمص الشمالي وحماه الجنوبي ووصل عدد التشكيل الذي قاده الى 4 آلاف مقاتل.
عرف أبو حاتم ببطولاته لدى أهالي المدينة، ومن أهم المعارك التي قادها (معركة تحرير تلبيسة- معركة تحرير كتيبة الدفاع الجوي في الغنطو – تحرير قرية جنان بريف حماه الجنوبي – تحرير قرية حوش حجو وقرية العامرية وبلدة ام شرشوح وقرية الدوير).
الفاجعة الأخيرة
بدأ النظام يرسل وساطات إلى أبو حاتم لإطلاق سراح أحد الضباط الأسرى لديه، مقابل الافراج عن أخيه المعتقل لأربع أعوام آنذاك، رفض أبو حاتم مراراً حتى طلب منه أصدقاؤه وأقنعوه بأن يطلق أخاه بحيث يبقى سنداً لأهله إذا حلّ مكروه به، أطلق أبو حاتم سراح الضابط الأسير وكانت فرحة أبي سليم كبيرة برؤية ولده ناصر، مضت عدة شهور والتحق ناصر بأخيه أبو حاتم في العمل العسكري دون ممانعة من أهله.
أثناء حملة قوات الأسد على أحياء حمص القديمة، هبّ أبو حاتم لمساندة الثوار المحاصرين هناك، أعطى الأوامر لفصيله بإمطار مواقع قوات الأسد بصواريخ الغراد وقذائف الدبابات، حيث أطلق في يوم واحد 75 صاروخاً ملحقاً خسائر بشرية فادحة في صفوف قوات الأسد، الأمر الذي دعا لاستنفار الأخيرة على الريف.
بدأت الطائرات الحربية بقصف مدينة تلبيسة بشكل جنوني، الى أن أتت طائرة حربية وألقت أربعة صواريخ دفعة واحدة على ذاك المضاد المتوسط الذي حاول أبو حاتم إبعاده عن المدينة قدر الإمكان .. كان الرامي أبو حاتم وأتت الصواريخ لتحوله إلى أشلاء برفقة أخيه ناصر.
جاء الناس إلى أبي سليم بولديه الأخيرين، ودعهم بدمع العين وهو صابر محتسب. بات الرجل السبعيني المعيل الوحيد لجميع أحفاده.
بعد سنوات، عقب التدخل الروسي وشائعات حملات التهجير التي عمل النظام على بثها في الريف، يقول أبو سليم واثقاً: يريدون أن يخرجونا بالباصات الخضراء، ونحن سنخرجهم بالقلّابات (الشاحنات القلابة).
عذراً التعليقات مغلقة