- عدسة جابر العظمة وقلم عروة المقداد
مازلتُ أتذكر انحدار الصباح تحتَ الأسلاك الشائكة، حيث كان الضوء يتسلّل مع النسمات الباردة التي تغمر وجعنا وألمنا، وتندسُّ في جلودنا حاملةً صوت الحناجر التي تهتف للحرية من كلّ الجهات؛ وتحمل معها وجوه من سقطوا على الأرض يقبلونها ويضمونها إليهم مثل عشيقة حرّة الأنفاس.
وكلّما أرخيت جسدي مستسلماً لضجيج الذكرى شعرت أنّني لم أترك تلك الأصابع التي ضغطت على أصابعي ذات يوم، حيث هتفنا للحرية في الطرقات، واكتشفنا معنى الوطن بعيداً عن الكتب والنظريات والروايات والأشعار والقصص….
في الزنزانة (2) كُنا اثنا عشر سورياً من مختلف الأعمار والمناطق والمشارب… التحمت أجسادنا في ضيق الزنزانة…
وترك العرق رائحته الثقيلة على قمصاننا الممزقة التي ضمدنا بها بعضاً من جراحنا وبرّدنا بعضاً من آلامنا…
حينها كُنا نشدُّ على أصابع بعضنا البعض، نهتف للحرية تارةً ويخنقنا البكاء تارةً أخرى، ونجترح الضحك لنصبّه في الأذان ونمنع وصول الصراخ المر إلى آذاننا، عندما يتخثر الفكر ويُصبح الجنون سوطاً طويلاً يمزّق اللحم الغض الطري ويسرق الأحلام (المشبوحة) على جدران الزنزانة، ويجتث خدر الأجساد من على البطانيات، التي تآخينا مع بقها وقملها…
تلك الحشرات التي آنست وحشة ليلنا الطويل… وأنصتت لمغامراتنا وقصص عشقنا التي رويت بهمس يحفّه الرعب، فنبت للخيال المكسور أجنحة وطار إلى زوجة تسرّحُ شعرها وتنتظر…
صبية تشبه القمر .. تسكر الهواء المتدفق فيترنح خجلاً وتحمله رسالة لمن تحب…
دراجة ملقاة على الدرج…
وأم تبتهل إلى الله…
وأب يكدُّ على أدراج المشافي والأبنية المحصنة…
وكان الوطن بسمائه وأرضه وترابه وأناسه يتسع في ضيق هذه الزنزانة، يمتدُّ ويتطاول، وينغرس في صدورنا، وينمو مع كلّ نفس يشي بأنّنا مازلنا أحياء.
Sorry Comments are closed