يبدو أن القادة الأتراك والإيرانيين يتجهون نحو مزيد من التقارب التفاهم والتنسيق حول ملفات المنطقة الساخنة، خصوصا بعد زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أخيرا إلى طهران التي سبقه إليها رئيس الأركان التركي الجنرال خلوصي أكار، وكان الملف الكردي المحور الرئيس في تناول الوضعين، العراقي والسوري، وشكل مادة التقارب بين ساسة البلدين الذين شددوا على عدم قبولهم “تقسيم المنطقة وتجزئتها”، وتعهدوا بمواجهة تفكك العراق وسورية، وأنهم سيردون باتخاذ “خطوات أكثر صرامة”، رداً على استفتاء الاستقلال الذي نظمه إقليم كردستان العراق.
ولعل تشديد الساسة الأتراك والإيرانيين على وحدة كل من العراق وسورية لا يخفي حقيقة أن وحدة هذين البلدين لا تهمهم إلا بقدر ما تخدم مصالح بلادهم وأمنها القومي، والحرص الشديد عليها نابع من الخوف من تمدّد إرهاصات استفتاء كردستان العراق إلى كل من الداخل الإيراني والتركي، خصوصاً وأن ملايين الأكراد يعيشون في كلا البلدين، ما يشكل عاملاً محرّضاً لمطالبة القوى السياسية الكردية في البلدين بخطوات مماثلة.
غير أن التقارب التركي الإيراني، المجسّد بتفاهماتٍ على المستويين، السياسي والعسكري، محكومة بوجود خلافات في المواقف والأهداف حول الملفات نفسها، حيث يريد ساسة نظام الملالي الإيراني تنفيذ مشروعهم التوسعي، عبر السيطرة على العراق وسورية، كي يكتمل الطريق الواصل من طهران إلى بغداد والموصل، وصولاً إلى دمشق وبيروت، فيما يسعى الساسة الأتراك إلى منع قيام أي كيان كردي يؤثر على الأوضاع لديهم، ولا يخفون تخوفهم من استغلال القوى السياسية الكردية ظروف عدم الاستقرار التي يشهدها كل من العراق وسورية والحروب الدائرة فيها، للقيام بخطوات انفصالية، فضلاً عن أثر ذلك على التنوع الإثني والقومي فيها، وقيام القوى الكردية المسيطرة بعمليات تغيير ديموغرافي في المناطق التي تسيطر عليها، عبر عمليات تهجير للسكان العرب والتركمان وسواهم.
ويتميز الداخل الإيراني بوضع مختلط بكثرة، من حيث تركيبته السكانية والاجتماعية، يخضع فيه الأكراد والعرب والبلوش والآذاريون إلى مختلف أنواع الكبت والقمع لأبسط حقوقهم الثقافية والقومية. لذلك، يخشى ساسة نظام الملالي من إرهاصات قيام دولة كردية في شمالي العراق، ووصولها إلى الأكراد الإيرانيين الذين ما زالت تسكن ذكراتهم “جمهورية مهاباد”، التي تشكلت في 1946، ولم تتمكن من إكمال سنة واحدة من عمرها، حيث أسقطتها صفقة مريبة عقدها الشاه محمد رضا بهلوي مع الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة في ذلك الوقت، ثم واجه أكرد إيران بعد ذلك منظومة قمعٍ شديدة، وتعرّضوا لإعدامات وتصفيات وملاحقات. ومع ذلك، تغاضت قيادة حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل عن ممارسات نظام الملالي الإيراني، مثلما تغاضت، وبشكل مريب، عن ممارسات نظام الأسد حيال أكراد سورية، وحولت مقاتليها إلى ورقة بيد نظامي الملالي الإيراني والأسد الإجرامي، اللذين استخدماهما للضغط على تركيا وخوض المعارك وإثارة القلاقل فيها، ووفر نظام الأسد، بنسختيه الأب والابن، كل السبل لخوض مقاتلي هذا الحزب معاركهم ضد تركيا، كما ساعد فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي للسيطرة على مناطق عديدة في شمالي سورية.
ويحظى التقارب والتفاهم بين أنقرة وطهران في سورية بتأييد (ومباركة) الطرف الروسي، الذي ركز جهوده على الجمع بينهما في مسار أستانة، ودفع بهما لكي يكونا شريكين له في رعاية الاتفاقات التي تنتج عن هذا المسار، بل وضامنين لها، الأمر الذي يفسر به بعضهم الانعطافة التركية في الملف السوري، منذ السيطرة على أحياء مدينة حلب الشرقية، فيما يعزوها بعض الأتراك إلى اضطرار الساسة الأتراك لبناء تفاهمات وتحالفات ضرورية وبراغماتية مع كل من الساسة الروس وساسة نظام الملالي في الملف السوري، بعد أن أدارت الإدارة الأميركية السابقة ظهرها لمطالب أنقرة، بعدم دعم ميلشيات وحدات الحماية الشعبية، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ومنعت فصائل الجيش السوري الحر المنخرطة في عملية “درع الفرات” من التقدم باتجاه منبج، بل ورفضت الإدارة الأميركية الجديدة أي مشاركة تركية في معركة السيطرة على الرقة، ولم تبد أي تفهم لمخاوف تركيا حيال مساعي المليشيات الكردية للسيطرة على مناطق واسعة في شمالي سورية، ومخططاتها في تشكيل كيان معاد لتركيا، ويشكل تهديداً لأمنها القومي.
غير أن التقارب التركي الإيراني لن يتوقف عند الوقوف المشترك الذي عبر عنه الرئيسان، التركي والإيراني، بوجه إرهاصات استفتاء إقليم كردستان العراق ومفاعيله، بل يمتد إلى الملف السوري، ومن بوابة محافظة إدلب السورية، خصوصا وأن التحضيرات لتنفيذ مخرجات اجتماع أستانة أخيرا جارية، حيث زادت الدبلوماسية التركية من حراكها على وقع زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أخيرا إلى أنقرة، وزيارة أردوغان إلى طهران. لكن وعلى الرغم من كل الحشود العسكرية على الحدود المحاذية لمحافظة إدلب، إلا أن القادة الأتراك لم يحسموا أمرهم بشأن سيناريو عسكري محدّد فيها، لأن الأمر سيكون مكلفا بالنسبة إليهم، ويدركون جيداً أن بلادهم لا مصلحة لها في خوض معركة مكلفة ضد هيئة تحرير الشام أو بالأحرى ضد جبهة فتح الشام (جبهة النصرة)، وغير معروفة النهايات والتكلفة المادية والبشرية، وتفضل الدخول العسكري إلى المنطقة، عبر التفاهم مع الفصائل الموجودة على الأرض، والذي يعدّ بمثابة إنقاذ للمنطقة التي تتوعدها القوى الدولية بكارثة كبرى في حال بقيت جبهة فتح الشام وأخواتها مسيطرة على المنطقة، لكن كل الاحتمالات ما زالت مفتوحة.
والسؤال هو هل ستصمد تفاهمات الضرورة ما بين الساسة الأتراك وساسة نظام الملالي أمام التنافس الشديد بينهما في المنطقة، بالنظر إلى اختلاف الأجندات والمشاريع، خصوصا وأن التنافس بينهما يضرب عميقاً في تاريخ البلدين، ولا تختصرها لعبة الاحتواء والمداراة في مواقف البلدين، طوال السنوات الماضية؟ ولعل الرئيس التركي، أردوغان، لم يتأخر بالإشارة فور عودته من طهران إلى “مؤامرات التمزيق والتقسيم والتحريض العرقي والمذهبي التي تجري في سورية والعراق، هدفها محاصرة تركيا من الجنوب”، وكلنا يعلم أن نظام الملالي الإيراني هو من يحيك عمليات التمزيق والتحريض العرقي والمذهبي في كل من سورية والعراق، بل وفي سائر المنطقة العربية.
عذراً التعليقات مغلقة