عملت روسيا منذ أول يوم انطلق فيه التمرد الشعبي الواسع ضد النظام الأسدي على مواجهته بجميع ما لديها من خبراتٍ تنظيمية وقدرات سياسية وعسكرية، وأسلحة. بداية حدث هذا عبر التعاون مع الأسدية، ثم حين تبين أن نظام الأخيرة آيل إلى السقوط، انتقلت روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، ولم تترك أي مجال للشك في أن الرئيس بوتين يشرف، شخصياً ويومياً، على حرب إنقاذ الأسد التي تصاعدت إلى أن صارت روسيا الطرف الرئيس، وأحياناً الوحيد، الذي يواجه الشعب السوري سياسياً وعسكرياً، والذي حكم على ثورته بالفشل، بجعله شخص الأسد خطاً أحمر، ورئاسته جزءاً من أمن موسكو الوطني.
في سياق هذا التطور، برز دور وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في ترجمة التحول العسكري الذي أحدثته قوة الغزاة المفرطة إلى مواقف سياسية أُريد لها أن تبطل عملياً وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، وما اعتمدتاه من بدائل للأسد ونظامه، وتحقق نتائج تتطابق وسياسات روسيا السورية، وفي مقدمتها إبقاء الأسد في السلطة، وتحويل الانتقال السياسي إلى النظام الديمقراطي البديل للأسدية إلى انتقالٍ داخل النظام، ينجز من خلال احتواء المعارضة داخل صفوفه ومؤسساته. وقد عمل لافروف على محورين:
أولاً، استبدال القرارات الدولية بقراءتها الروسية التي جسدها قرار دولي حمل الرقم 2254، أطاح وثيقة جنيف والهيئة الحاكمة الانتقالية، ومرجعيتها القرار الدولي 2118، واستبدلها بـ “جسم حكم” مرجعيته بشار الأسد، هو”حكومة وحدة وطنية” برئاسته، مهمتها احتواء الثورة ودمج المعارضة في النظام.
ثانياً، ترجمة هذا الانقلاب الدولي والعسكري إلى خطواتٍ تجعله مقبولاً وقابلاً للتطبيق، بقوة تدمير قدرات الثورة العسكرية، ومصفوفة من الأفعال مكّنتها من ممارسة تحكّمٍ متزايد بأطراف الصراع، منها “الهدن” التي عقدتها بالقوة مع مناطق خرجت عن سيطرة الأسدية، أنهكها الحصار والتجويع والقتل العشوائي والأمراض، وأعادتها إلى النظام في محيط دمشق بصورة خاصة، واستخدام علاقاتها بالدول العربية والإقليمية وبواشنطن، من أجل تفتيت المعارضة وابتداع منصات بديلة لها، ترفض مثلها وثيقة جنيف والقرار 2118، تحمل إحداها، بكل وقاحة، اسم قاعدة جيشها الغازي في الساحل السوري، وممارسة ضغوط عسكرية لا قبل للفصائل بصدها أو ردعها، وعزل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وشق الفصائل ودعوتها إلى مفاوضاتٍ مرجعيتها فيها خلافاتها، تتجاهل “الائتلاف” وهيئة التفاوض العليا. وأخيراً، بلورة معادلة دولية/ إقليمية/ عربية يتم بها تطويق الثورة، ودفع الشعب إلى الاستسلام لخطة الكرملين التي تنفذ بموافقةٍ أميركية وتفويض عربي/ إقليمي، وتحول الغزاة المعتدين من عدو يقاتل إلى طرفٍ يعد العدة للحل.
واليوم، وقد أنجز معظم العمل في المستويين، العسكري والسياسي، تنتقل روسيا إلى موقف يضع المعارضة أمام أحد خيارين: الرضوخ للاحتواء أو الاستبدال. بعد نجاحها في جعل عدد مهم من الفصائل “يستقل” عن الائتلاف، ويسحب منه اعترافه اللفظي بمرجعيته، بدأت روسيا ضغوطاً مكثفة من أجل تشكيل وفد مفاوض “موحّد”، سيقضي تشكيله على مشروع “الهيئة الحاكمة”، وإزالة الأسد، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، وسينقل الخلاف مع الروس إلى خلافٍ بين السوريين، تمهيداً لمرحلة تالية يعاد فيها تشكيل وفد مفاوض يقبل الإبقاء على الأسد، ويطبق مرحلة انتقالية من حكومة أسدية إلى أخرى، ويعترف بحقه في رئاسة جديدة، بينما سيعود تحالف المعارضة الأسدية والروسية إلى أماكنهم السابقة من حكومة النظام، أو سيُمنحون مواقع جديدة فيها.
يكاد يكون مؤكداً أن مؤتمر الرياض 2 سيواجه مهمتين: الاعتراف بالقرار 2254 مرجعية وحيدة لمفاوضات جنيف، والقبول بسقوفه العالية جداً بالنسبة للنظام، والملتصقة بالأرض بالنسبة للمعارضة. والقبول بدور روسيا مرجعية دولية مطلقة الصلاحية ومعتمدة في أي حل. أما من لا يقبل هاتين المرجعيتين، فستكون منصّة موسكو وحميميم وبعض منصّة القاهرة بانتظاره سياسياً، وطيران بوتين وأسطوله الحربي بانتظاره عسكرياً. بقول أوضح: لن يسمح لأحد بإفشال طبخة يبدو أنه حان وقت التهامها.
كنت، في الماضي، أحاول تحميس المعارضة، فاختم مقالاتي دوماً بسؤال عما سنفعله نحن، وأحدد نقاطاً يمكننا القيام بها. هذه المرة، لا حاجة لأن أتعب نفسي بطرح هذا السؤال السخيف. من يتابع ألاعيب المعارضة يدرك أنها لا ولن تفعل شيئاً غير الاستمتاع بخلافاتها اليوم، والنقّ غداً.
عذراً التعليقات مغلقة