أقامت تركيا علاقات وثيقة مع نظام الأسد قبل بدء الصراع في سوريا. وقد ألغت الدولتان متطلبات التأشيرة، وأقامتا مناورات عسكرية مشتركة، واجتماعات لمجلس الوزراء، كما تعاونتا ضد حزب العمال الكردستاني. إن سياسة أنقرة التي اعتمدتها حديثاً والهادفة للحؤول دون وقوع أي مشاكل مع جيرانها، قد نالت الرضا والاستحسان في الداخل والخارج على حدّ سواء. ووصف وزير الخارجية “داوود أوغلو” سياسة تركيا تجاه سوريا بأنها “مثال صارخ” على نجاح رؤية أنقرة الجديدة للسياسة الخارجية.
وقد أجبر الصراع في سوريا أنقرة على تغيير سياستها، حيث ألغت تركيا جميع الجسور مع النظام وأصبحت أحد الرعاة الرئيسيين لمعارضة الأسد. ولكن بعد سنوات من دعمها للمعارضة، فإن تركيا قد فشلت في توجيه الصراع نحو المسار الذي تريده. وعوضاً عن ذلك، يوجد في تركيا 3 ملايين لاجئ يقيمون داخل حدودها ويواجهون عدداً لا يحصى من المشاكل الأخرى المنبثقة عن النزاع السوري. لذلك تقوم أنقرة بدور آخر حيث تخلّت تدريجياً عن مطالبتها بتغيير النظام في سوريا، وقلّلت تدريجياً من دعمها للمعارضة.
وفي عام 2015 حولت تركيا تركيزها عن تغيير النظام إلى مكافحة الإرهاب في ضوء التغييرات المحلية والإقليمية. فقد ضربت داعش في صيف 2015 مركزاً ثقافياً في بلدة تركية بالقرب من الحدود السورية، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 30 شخصاً وإصابة أكثر من 100. وكانت هذه أول عملية قتل جماعي قام بها المتطرفون ضد المدنيين في تركيا، وأسوأ أعمال العنف القاتلة الناتجة عن الحرب الأهلية السورية. وبعد عدة أيام تم خرق اتفاق لوقف إطلاق النار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني P.K.K””، وفي الوقت نفسه استولت كل من وحدات حماية الشعب “Y.P.G” التي تعتبر ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا ، وحليفتها الولايات المتحدة ، على المدن الحدودية في معركة ضد داعش ، وبدأت في ربط أقاليمها المقسمة. وجميع هذه التطورات ساهمت في تعزيز تصور تركيا للتهديد وأجبرت أنقرة على جعل سياستها تتمحور حول مكافحة الإرهاب في سوريا.
إن التدخل العسكري الروسي في سوريا، والعلاقات المتوترة بين أنقرة وموسكو ، بعد أن تم إسقاط طائرة لروسيا في هذا العام، قد جعلت سياسة تركيا الطامحة لتغيير النظام أقل جدوى.
وفي عام 2016 اتجهت تركيا إلى إصلاح العلاقات مع روسيا في حين توترت علاقتها مع الولايات المتحدة، كما أن التعاون بين واشنطن و وحدات حماية الشعب “Y.P.G” كان عائقاً بين العلاقات التركية_الأمريكية طويلة الأمد. وقد أضافت محاولة الانقلاب المزيد من التوتر ولاسيما عندما رفضت الولايات المتحدة تسليم “فتح الله غولن” المقيم في بنسلفانيا والذي تتهمه تركيا بتدبير الانقلاب الفاشل.
إن انحياز تركيا إلى قطر من بعد أن قامت ثلاث دول خليجية بالإضافة إلى مصر بقطع العلاقات مع الدوحة ، قد سبب المزيد من المتاعب لأنقرة في سوريا. وقد أثار الموقف التركي غضب السعوديين الذين تتداخل سياستهم في سوريا مع أنقرة. وقد استغل المسؤولون الأكراد السوريون التوتر بين الرياض وأنقرة، واتخذوا موقفاً متزايداً ضد إيران ومؤيداَ للسعودية.
وقد قال رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري “صالح مسلم” في مقابلة مع صحيفة الرياض السعودية أن هناك تحالفاً إيرانياً_قطرياً_تركياً يقوض الأكراد في سوريا.
وقال “رياض حجاب” رئيس لجنة المفاوضات العليا أن داعميه يريدون محاربة داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية جنباً إلى جنب مع قوات سوريا الديمقراطية .
إن هذه التطورات إلى جانب قرار إدارة “ترامب” بمضاعفة الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب “Y.P.G” قد دفعت تركيا إلى البحث عن بدائل في جهودها للحد التقدم الكردي في سوريا.
وبعد سنوات من القتال لأهداف متقاطعة، يبدو أن تركيا قد وجدت أرضية مشتركة مع نظام الأسد و حلفائه في مواجهة عدوها المباشر في سوريا المتمثل بوحدات حماية الشعب “Y.P.G” . مما يعني تغيراً كاملاً في سياسة أنقرة مع سوريا. حيث لم تتحول تركيا عن إسقاد النظام فحسب، بل ساعدت أيضاً على الحد من مكاسب النظام في غرب سوريا. وقد أقامت تركيا و روسيا صفقة لإنهاء القتال في حلب، حيث لعبت تركيا دوراً رئيسياً في هزيمة المعارضة . وقد غيرت خسارة حلب أنها قواعد اللعبة في الصراع السوري. وساعدت أنقرة كذلك على تقدم النظام من خلال اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه روسيا بين النظام والمعارضة. وبفضل وقف إطلاق النار في الغرب ، تمكن النظام من تحرير قواته وكسر حصار داعش على ديرالزور في الشرق في ما يعتبر من أهم انتصارات النظام.
وفي الشهر الماضي، خفضت تركيا رواتب أعضاء الائتلاف الوطني السوري الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له. وهذه الخطوة هي الأخيرة في علاقة سياسة يشوبها تباين في المصالح بين أنقرة والمعارضة السورية. ويردد الكثيرون في المعارضة ما يرون أنه “تسليم حلب للنظام”، وميل أنقرة نحو النظام وحلفائه للحد من التقدم الكردي.
إن التغيير السياسي في تركيا يعد ضربة كبيرة للمعارضة ودفعة للنظام ليمضي قدماً، ولكن هذا لا يعني أن أنقرة تذهب إلى ” تفادي المشاكل” مع الرئيس بشار الأسد ، على الأقل ليس بعد . ولكي يحدث ذلك يتعيّن على أنقرة ودمشق أن يطلعا بشكل مباشر على موضوع الأكراد السوريين، ةإذا قرر الأسد أنه لن يتسامح مع الحكم الذاتي الكردي، فإن الرئيس “رجب طيب أردوغان” قد يتبع مرة أخرى سياسة “تفادي المشاكل” مع الأسد.
عذراً التعليقات مغلقة