كان ثمّة اعتقاد بأن جماعة الإخوان المسلمين السورية انطوت على ذاتها، بعد أن ظهر لها أنْ لا دور لها في سورية في كل الأحوال، وبعد تراجع دور داعميْها، تركيا وقطر، والصفقات التي تعقدها تركيا مع روسيا، لكن المفاجئ صدور بيان عنها، بعد اختفاء طويل، يتناول “رؤية” طالما كرّرتها الجماعة، حين تكون في “موقف تكتيكي”، أو في “زنقة”، أي حين تريد اللعب البراغماتي. ويبدو أن المأزق الذي تعيشه، والذي يفرض أن تتوارى وتندثر، فرض عليها العودة إلى التذكير بما قالت في العقدين السابقين، وإعادة صياغة الأفكار ذاتها، مع تحديد موقفٍ من “الوضع الراهن”.
قبل تناول بعض ما ورد في البيان، لا بدّ من الإشارة الى أن الجماعة مستمرة بالتعامل وكأن الأمور “طبيعية”، وأنها تعلن موقفها مصرّة على رحيل الأسد، وتحقيق “الدولة المدنيّة ذات المرجعية الإسلامية”، معتمدة على الأكثرية التي تعتبر أنها كلها تسير خلفها، وهي التعبير عن رؤاها ومصالحها.
قبل ذلك، ليس في البيان، كما في بيانات ومواقف سابقة، ما يشير إلى أخطاء في علاقة الجماعة بالثورة، ولا إشارة إلى الوضع الذي وصلت إليه الثورة، والأسباب التي أدت إلى ذلك. ربما كان هدف البيان هو العكس، أي التغطية على ذلك كله، وإعادة إظهار الجماعة “إسلاما معتدلا”، و”مدنيا”، ومصرّا على أهداف الثورة. لكن المشكلة أن الجماعة كانت أوّل من رفض أهداف الثورة، وعمل على تلبيسها أهدافها هي. وهذا الشغل هو ما أوصل الثورة إلى أن تغرق تحت سطوة المجموعات “السلفية الجهادية” التي طالما دافعت الجماعة عنها، والأخطر أنها مهدت الطريق لهذه المجموعات. فقد لعبت منذ البدء، والشباب يصرخ في الساحات: “لا سلفية ولا إخوان.. الثورة ثورة شبان”، على أسلمة الثورة وتطييفها، منذ أوجد بعض أفرادها صفحة “الثورة السورية ضد بشار” التي كانت تمتلئ بالمنظور الطائفي القميء، إلى التحكّم عبرها في أسماء أيام الجمع، وفرض أسماء “دينية”، على الرغم من كل احتجاجات الشباب والتنسيقيات، إلى التحكّم في نقل الصورة عبر قناة الجزيرة، وفرض شعاراتٍ ملبّسة تلبيساً للتظاهرات، ومنع كل الشعارات المدنية الديمقراطية من أن تنشر. فقد كانت سبّاقة في تشكيل “شبكة إعلامية”، وهيئاتٍ باتت هي الناقل الحصري لكل الفيديوهات التي ترسل. إضافة إلى “فبركة” المجلس الوطني، بالتعاون مع أطراف معارضة (إعلان دمشق) وبدعم إقليمي كان متحالفاً أصلاً مع نظام بشار الأسد، وبات يريد سلطةً بديلةً يتحكّم فيها عبر هذه الجماعة. وكذلك الشغل على التدخل “الخارجي” (أي الأميركي)، على الرغم من أنه كان واضحاً استحالة ذلك، بينما أضرّ بالثورة، وأخاف منها. وأيضاً دورها “الأصولي” في السيطرة على التعليم، في مخيمات اللجوء في تركيا على الأقل.
ذلك كله يعني أن الجماعة، بسياستها، كانت جزءاً من الفاعلين على تدمير الثورة، بطموحها الذاتي، ومصالحها الضيقة. وبالتالي، لا بدّ من أن تحاسب على كل ما فعلته. لكنها تهرب من ذلك إلى اللعب بالأفكار من جديد. وهي تعتبر أنها باتت مدنيّة، ويبدو أنها تفهم المدنيّة بتقليص الديمقراطية إلى حرية أحزاب (قبل أن تسيطر) وانتخابات (إلى أن تنجح)، بينما لا دولة مدنية بمرجعية إسلامية، لأنها تصبح دولة دينية، فالأمر يتعلق بالحق في التشريع الذي بات من حق المواطنين المتساوين، أي من دون تمييزٍ على أساس الدين أو الطائفة أو الإثنية أو الجنس. والمرجعية الإسلامية تميّز بين المسلم وغير المسلم، وتفرض شريعةً ليست من نتاج الشعب. ولا يعني وجود أغلبية “سنية” أن الدولة يجب أن تكون “إسلامية”، فالدولة المدنية تبدأ في فصل الدين عن الدولة، ولهذا هي مدنيّة، أي دولة يتحكم بها الشعب بلا مسبقات فوقهم. لهذا الدين شأن شخصي على الدولة حمايته ككل المعتقدات الشخصية. ويجب أن يكون واضحاً أنه لا دولة ديمقراطية من دون أن تكون علمانية، بالضبط لأن أساس الديمقراطية هو المواطن المجرّد إزاء الدولة من دينه وطائفته وإثنيّته وجنسه.
Sorry Comments are closed