تفاخرت موسكو وطهران بدخول القوات السورية والإيرانية معقل «داعش» في دير الزور بعدما كانت وصلت إلى الحدود مع العراق، في تحد للقرار الأميركي بإبقائها بعيدة منها، وأعلن فلاديمير بوتين رؤيته للتسوية بعد «النصر الاستراتيجي» على التنظيم المتطرف. لكن، هل فرضت روسيا وإيران فعلاً أجندتهما على الأميركيين في سورية، وهل كان الأميركيون جادين أصلاً في عدائهم لنظام الأسد وراغبين في تغييره؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في طرح أسئلة أخرى: ماذا تعني حقوق الإنسان في العالم العربي للإدارات الأميركية؟ وهل يصدق أحد أن الولايات المتحدة منشغلة ومهمومة بمصير ملايين السوريين المقتولين والمعتقلين والمشردين إلا بمقدار ما يؤثر خروج قضيتهم عن حدود بلدهم في النظام الإقليمي الذي ترعاه واشنطن؟
طوال أربعة عقود قبل الثورة، شكل القتل والبطش والسجن وسائر أنواع العسف، أدوات التعامل الوحيدة للنظام السوري مع شعبه، لكن «عاطفة» أميركا لم تتحرك أو تتأثر بالتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية وهيئات حقوق الإنسان، باستثناء حالات نادرة، عندما كانت تريد الضغط على النظام لجعله يقبل صاغراً بدور ما في ملف ما، في حال أبدى «مقاومة» هدفها تحصيل ثمن أكبر.
كانت الولايات المتحدة، وأوروبا التي تلعب دوماً دور التابع للسياسة الخارجية الأميركية، حتى لو حرصت على إظهار بعض التمايز غير المؤثر، تعتمدان نظام دمشق منذ انقلاب حافظ الأسد في مطلع سبعينات القرن الماضي، ركناً أساسياً في نظامهما الإقليمي، غير عابئتين على الإطلاق بما يفعله بشعبه ومعارضيه.
لهذا السبب ذاته، دخل جيش الأسد لبنان ونكل بشعبه وقصف مدنه، بناء على قبول، بل توكيل أميركي واضح، ودور إسرائيلي مساند، ومن دون أي حساب أو مساءلة. كان لبنان «جائزة» دمشق لدورها في معالجة «الخطر الفلسطيني» الذي كان يحتل يومذاك الأولوية في حسابات واشنطن. وكان تطويع منظمة التحرير وإضعافها تمهيداً لدفعها إلى أحضان إسرائيل المهمة الأولى للسياسة الأميركية وتابعها السوري.
هذا الدور الذي رُسم لنظام الأسد جعل الأميركيين يرفضون منذ أكثر من ست سنوات تقديم دعم فعلي للشعب السوري المنتفض عليه. ظلوا ينتظرون ويقدمون الوعود وبعض المساعدات «غير الفتاكة» للمعارضين، فقط لحفظ خط الرجعة في حال نجح هؤلاء في إسقاط الديكتاتور، إلى أن تمدّد «داعش» و «النصرة» إلى الأرض السورية، أو أُرسِلا إليها، فأزاحا حملاً عن ظهورهم.
بعد ذلك، بات في إمكان الأميركيين التركيز على «أولوية محاربة الإرهاب» بدلاً من الانشغال الشكلي بمطالب السوريين التواقين إلى نيل حريتهم والعيش في وطن عادي، وصار مبرراً نفض اليد من تشكيلاتهم الحالمة ببناء بلد ديموقراطي وانتخابات وتداول للسلطة.
لو صح أن الأميركيين راغبون في سورية ديموقراطية، لساهموا في تغيير مسار المواجهات المسلحة التي بدأها النظام وأمعن فيها، ولساعدوا المعارضة في التصدي لدور الميليشيات الإيرانية المتعاظم، بدلاً من منح روسيا توكيلاً بالالتفاف على اتفاقات جنيف وصوغ حلول تناسبها مع حلفائها. ولو كانت هناك إرادة دنيا في إنقاذ السوريين من فظائع الأسد وحلفائه، لما تغاضت استخبارات الأميركيين عن ظهور «داعش» وانتقاله إلى سورية، مانحة إياهم ذريعة للتراجع عن شعار تغيير نظام يخدم مصالحهم منذ قيامه قبل نصف قرن.
التسوية التي يريدها الأميركيون الآن ويعملون لتحقيقها بالتنسيق التام مع الروس، هي إحياء نسخة معدلة من النظام الإقليمي القديم تشمل دوراً «منضبطاً» لإيران، أي لملمة الوضع «الفائض» وإعادة الجنّي إلى القمقم السوري. فلتبق الأزمة داخل سورية. وليفعل النظام ومعه إيران وروسيا ما يريدون بالسوريين، لكن دوماً داخل الحدود، وبما لا يهدد النظام الإقليمي الذي أُفشِلت محاولات خرقه في مصر وليبيا. وتستعين الولايات المتحدة على تغطية هذه الحقيقة بالخطب والشعارات والمجاملات وبيانات الاستنكار والإدانة وأكياس الدقيق والسكر.
عذراً التعليقات مغلقة