مستقبل إدلب الغائم

أحمد أبا زيد29 أغسطس 2017آخر تحديث :
مستقبل إدلب الغائم

(1)

تم في يوم 21 يوليو/ تموز توقيع اتفاقية بين حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، تقضي بخروج الحركة من معبر باب الهوى الحدودي، ووقف إطلاق النار بينهما، وكان الاتفاق إعلان هزيمة كبرى لحركة أحرار الشام، وفي الوقت نفسه إعلانا ضمنيا أن هيئة تحرير الشام (مكونها الرئيس جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً)، وزعيمها أبو محمد الجولاني، هما القوة المهيمنة على محافظة إدلب ومحيطها، وتتويجاً لسلسلة طويلة، ومستمرة، من حملات الجولاني ضد فصائل الجيش السوري الحر، والتي انتهت بالحملة على حركة أحرار الشام، حيث انتصر في معظم هذه المعارك.

سيطر الجولاني تباعاً على معابر باب الهوى وأطمة وخربة الجوز مع الحدود التركية، لاستكمال خطة فرض نفسه سلطة أمر واقع، على الدول التعامل معها، حسب تصوره. وبعد السيطرة العسكرية، طرح مشروع “الإدارة المدنية للشمال السوري” لاستكمال السيطرة مدنياً، وأرسل إلى المنظمات والمجالس المحلية والمناطق المختلفة، حتى المناهضة له، ليدخلوا ضمن هذا المشروع، مع تردّد كثيرين منهم خوفاً من أنهم سيكونون تحت سلطة هيئة تحرير الشام، المصنفة إرهابية، في حال دخولهم ضمن المشروع، أو أنه ستكون هناك بدائل من عناصر هيئة تحرير الشام أو الغرباء عن مناطقهم، في حال اعتزالهم العمل معه، مع تخوف الجميع من مغبة سيطرة هيئة تحرير الشام على المحافظة، وانقطاع المساعدات، وترقب حملة دولية ضمن حرب الإرهاب.

شهدت مناطق متعدّدة من محافظة إدلب وريف حلب الغربي مظاهرات شعبية ضد هيئة تحرير الشام، في أثناء الهجوم وبعده، واستطاعت هذه المظاهرات إخراج الهيئة من هذه المناطق، أو منعها من اقتحامها، كما جرى في معرّة النعمان والأتارب وحزانو وحزارين وسراقب، خصوصا أن الأخيرة شهدت تجربة ديمقراطية عبر انتخابات المجلس المحلي، قبل يوم من محاولة حركة تحرير الشام اقتحام المدينة. وشهدت كل هذه المناطق حملة رفع أعلام الثورة السورية فيها، لإثبات أن “إدلب خضراء” في رمز إلى أنها لا تؤيد الجهاديين الذين يرفعون اللون الأسود، وليسوا أصحاب الهيمنة فيها، لكن الهيئة أنزلت هذه الأعلام في أكثر من منطقةٍ تمكّنت من اقتحامها.

(2)

يبقى واقع السيطرة في إدلب أكثر تعقيداً من التسليم بأن المنطقة كلها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، أو تنظيم القاعدة، حيث ما زالت هناك جيوبٌ تحت سيطرة فصائل عسكرية منافسة، أو معادية للهيئة، بالنسبة لريف حلب الغربي، حيث حركة الزنكي، أو جبل الزاوية وسهل الغاب وجبل شحشبو، حيث المجموعات التي قاومت الهيئة من أحرار الشام (خصوصا صقور الشام)، أو ريف حماة الشمالي، حيث توجد تشكيلات من الجيش السوري الحر، إضافة إلى المناطق متداخلة السيطرة في إدلب وريفها، وما هو أهم من ذلك هو مقاومة المجتمع المحلي للهيئة، وإخراجها من أكثر من منطقة، مثل سراقب وحزانو والأتارب ومعرّة النعمان، وإن كان هذا لا ينفي واقع هيمنة هيئة تحرير الشام حالياً في المنطقة وحدودها، وغياب المنافس الحقيقي لنفوذها على مستوى المحافظة.

تقتضي خطة الجولاني أن يفرض نفسه سلطة أمر واقع. ولكن مع وجود طيفٍ متنوع، عسكري ومدني، مسيطَر عليه في الواجهة أيضاً، لإثبات أن السلطة الجديدة ليست امتداداً لتنظيم القاعدة، لكنها تمثل المجتمع، ولكي يجبر الجميع على أن يكونوا معه في المركب نفسه، والسيطرة على المعابر الحدودية، وإن كان عبر واجهة مدنية، تأتي في سياق البحث عن تعامل مباشر مع الدول والمنظمات، والبحث عن تمويل مستدام أيضاً توفره حركة التجارة.

حاولت هيئة تحرير الشام، في هذا السياق، التواصل مع الحكومة التركية، ومع منظمات دولية، وحتى مع جهات أميركية، ومع مؤسسات المعارضة السياسية، مثل الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة، ومع المجلس الإسلامي السوري. وأرسل الجولاني إلى شخصيات معروفة في أوساط الثوار السوريين بمعاداتها للهيئة ولشخص الجولاني، يطلب اللقاء والحوار معهم، في محاولاتٍ مستميتةٍ لنيل شرعيةٍ من هذه الجهات، وتجاوز عزلة التصنيف والرأي العام، ولإثبات “الاعتدال” والاستعداد لتقديم الخدمات، على الرغم من أن بروباغندا الحشد والتعبئة التي استعملتها هيئة تحرير الشام (وقبلها جبهتا فتح الشام والنصرة) ضد خصومها كانت هي بالضبط التعاون مع هذه الجهات.

على الرغم من انتصار هيئة تحرير الشام، ومن قبلها جبهة فتح الشام وجبهة النصرة، في غالبية معاركها ضد فصائل الجيش الحر، ثم ضد أحرار الشام، في إدلب، إلا أن هذا لا ينفي وجود الانقسامات والتفكك داخل حركة تحرير الشام. وبطبيعة الحال، لم يقاتل الجولاني بكل مكونات الحركة، وإنما بمجموعات عسكرية مضمونة الولاء، مثل “جيش النصرة”، وهو بمثابة قوات نخبة على المستوى الأيديولوجي والعسكري ضمن جبهة النصرة.

وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام قامت تحت شعار كيان اندماجي لفصائل جبهة فتح الشام وحركة الزنكي والمنشقين عن أحرار الشام (جيش الأحرار) مع مكونات أصغر، إلا أنه لم يتحقق اندماج ضمن الهيئة، ولا توحد في الرؤية تجاه العلاقة بالفصائل الأخرى. وكان الجولاني فقط من يتبنى القتال المستمر ضد الجيش الحر و”أحرار الشام”، ونتج عن هذا الانقسام خروج حركة الزنكي من الهيئة (يوليو/ تموز 2017)، وتعليق “جيش الأحرار” عملهم، وانشقاقات فردية. وهو ما يعني أن التنظيم الموجود حالياً قد عاد عملياً إلى جبهة فتح الشام، أو بالأحرى إلى جبهة النصرة. ومن المتوقع أن يزداد هذا الانقسام بعد خطوات الجولاني لإظهار الاعتدال، ومع فشل خطته لدمج الفصائل، أو فرض سلطة أمر واقع، ومع تنامي الغضب الشعبي جراء الأزمة الاقتصادية ومخاوف الحرب الدولية.

ويتوقع أن تعلن هيئة تحرير الشام قريبا عن مجمل مشروعها الجديد في “الإدارة المدنية”، بعد خطواتها المتسارعة في ‏الفترة ‏السابقة في اللقاءات ومحاولة إدراج المجالس المحلية والمؤسسات التعليمية والمدنية ضمن مؤسساتٍ مركزيةٍ، تتبع لهذه الإدارة ‏المدنية ‏التي تديرها الهيئة بشكل مباشر.‏

(3)

ينبغي أن تنطلق الخطوات الدولية حول إدلب من تمكين المجتمعات المحلية في إدلب وتمثيلها، وهي المجتمعات التي كانت من الحواضن والحوامل الأولى للثورة السورية ضد نظام الأسد، إضافة إلى التحديد الدقيق للمشكلة المتعلقة بالجولاني والمجموعات المرتبطة به، وليس توسيعها لتشمل المنطقة والسكان، وإلا قد تؤدي إلى نتائج خطيرة، تتجاوز مصير هيئة تحرير الشام.

خرجت إدلب ومحيطها (ريف حلب الغربي، ريف حماة الشمالي) عن سيطرة نظام الأسد، بعد انفجار الانتفاضة الشعبية فيها، وظهور مجموعات الجيش الحر الأولى من السكان المحليين، وهذه الحواضن المحلية الأولى للثورة على النظام، مثل جبل الزاوية ومعرّة النعمان والأتارب، كانت الأكثر معارضة لتنظيم داعش، ثم تنظيم القاعدة، وتشهد ساحاتها مقاومة مدنية مستمرة ضد هيئة تحرير الشام.

وينبغي الحذر من التعامل الدولي، والأميركي خصوصا، مع إدلب عبر سياسات حرب الإرهاب المتبعة في الموصل أو الرقة أو دير الزور، والتي ظهرت في قصف المدن، باعتبارها جغرافيا مستباحة تحت سيطرة الإرهاب، أو منح دور لنظام الأسد أو المليشيات الإيرانية أو روسيا في السيطرة على إدلب، برصيدهم الوافر من جرائم الحرب والمذابح والدمار في ذاكرة السوريين وبيوتهم، أو دعم تمدّد حزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني، ما سيجعل المعركة مع المجتمع كله، بدلاً من عزل هيئة تحرير الشام والجولاني عن هذا المجتمع، حيث سيدافع الشبان عن مناطقهم لا عن الهيئة، وسيؤدي إلى محرقةٍ للسكان والمدن. ولكن الكلفة الأخطر من حلب وموصل جديدة في إدلب ستكون على استقرار المنطقة ومستقبلها إلى أمد بعيد، حيث ستضمر فرص النزوع نحو الاعتدال والاستقرار والحلول السياسية، بينما الأفق مفتوحٌ للاستبداد والقوتين، الإيرانية ‏والروسية، لصياغة مستقبل المنطقة وشعوبها بالحديد والنار وخطط التهجير والإبادة، حتى تحصل على “مجتمع متجانس”، حسب ‏تعبير الأسد.‏

على الدول والأطراف المتفاوضة الآن حول إدلب أن تتذكّر أنه، كما يجب الحذر من منح الجولاني أرضية استقرار أو شرعية أو تمويل، يجب الحذر أيضاً من معاقبة المجتمع ومستقبل المنطقة، بدلاً من تحريره، ودعم جهود الديمقراطية والاستقرار والعدالة، ولا يتم ذلك حين تصبح حرب الإرهاب غطاء لشرعنة الاستبداد، وتكريس جذور الفوضى والإرهاب والعنف وأسبابها في المنطقة… حرب الإرهاب على هذه الصورة هي مصنع الإرهاب المستدام.

المصدر العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل