نادراً ما عاندت تطورات الصراع السوري تشاؤم المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، وغالباً ما خيبت الوقائع الملموسة تصريحاته المتفائلة، إن في وقف القصف السلطوي أو في تسهيل وصول الغذاء والدواء إلى مناطق محاصرة، أو في رهانه على مفاوضات جنيف التي عقدت مراراً تحت إشرافه، ولكن يصح اليوم أن يؤخذ على محمل الجد تفاؤله بحصول تقدم نوعي في الملف السوري خلال الأشهر القادمة، ما دام يستند في ذلك الى مستجدات سياسية وعسكرية.
أولاً، تبدل محتوى التسوية السياسية المرتقبة، موضوع التفاؤل، حيث نجحت موسكو، بعد عامين من تدخلها العسكري المباشر في فرض توازن جديد للقوى، جعلها الطرف المقرر في الشأن السوري، ومكنها من الالتفاف على أهم النقاط الإشكالية وفرض رؤيتها لإخماد الاقتتال، مستعينة بمناطق خفض التوتر وبخطة طريق جوهرها تثبيت أركان الدولة وفصل الوجه العسكري للصراع عن وجهه السياسي، ربطاً بتفهمها مخاوف أهم الأطراف الدولية والإقليمية وطمأنتها، الأمر الذي يعني عملياً، نسف ما نص عليه بيان جنيف عن مرحلة انتقالية تحدث تغيرات سياسية جذرية في محتوى السلطة وعلاقتها بالدولة والمجتمع، ويعني تالياً تثبيت الواقع القائم في ما يشبه عملية تطبيع سياسية واجتماعية تهدر تضحيات الشعب السوري وتطيح مطالبه بالحرية والكرامة، وتستهتر بمعالجة ملفات إنسانية ملحة ومؤلمة، كأوضاع المعتقلين والمغيبين قسرياً والمشكلات المتفاقمة للاجئين والنازحين.
ثانياً، ما كان لموسكو أن تتمكن من التفرد في تقرير المصير السوري، لولا استمرار سلبية المجتمع الدولي والخذلان الغربي وتسليم البيت الأبيض دورها المفتاحي، مكتفياً بقيادة التحالف الدولي المناهض لـ «داعش»، وتمكين قوات سورية الديموقراطية، ومخيباً الآمال التي عقدت بعد مجيء ترامب على مقاربة أميركية جديدة للملف السوري، غذتها الضربة الصاروخية لمطار الشعيرات رداً على معاودة النظام استخدام الغازات السامة في بلدة خان شيخون، ثم تصعيد لهجته العدائية ضد طهران لمنع إفلاتها من اشتراطات الاتفاق النووي.
وأيضاً ما كان للدور الروسي أن يأخذ ذاك الزخم من دون نجاحه في تطويع مواقف الطرفين الإقليميين الأكثر تأثيراً في الصراع السوري، إيران وتركيا، فالأولى تعي حاجتها التحالفية مع روسيا وتقدر ما حققه حضور الأخيرة عسكرياً من نتائج عجزت هي عن تحقيقها، لتبدو مكرهة على تفهم خطة الكرملين واملاءاته في سورية، حتى لو تحجم نفوذها وتقلص دور بعض أدواتها، بدليل انخراطها بعد تردد في مفاوضات آستانة، وخضوعها للترتيبات الأمنية ومناطق خفض التوتر التي فرضتها موسكو، من دون التفريط بفرص تعزيز حضورها في مواقع استراتيجية حدودية مع العراق ولبنان، وما يقيد طهران أكثر أنها لا تمتلك بدائل دولية أو إقليمية تشجعها على تغيير تحالفها، وتعاني من استنزاف طاقاتها لهضم نفوذها في العراق وإدارة معارك اليمن وتخفيف حصار «حزب الله» اقتصادياً، فكيف الحال مع تصاعد تهديدات دونالد ترامب ضد نظامها وطموحاته الإقليمية؟
أما حكومة أنقرة ومع أنها كشفت عن طموح نهم لتعزيز وزنها ودورها الإقليميين، يبقى هاجسها الأول منع قيام كيان كردي على حدودها، ما يجعلها مستعدة براغماتياً للمقايضة على أي شيء لقاء ذلك، بخاصة وقد هز الانقلاب الفاشل أركانها وأقلقتها النتائج العسكرية التي حققتها قوات سورية الديموقراطية المدعومة أميركياً، ما يفسر انفتاحها الواسع على روسيا وتنازلها لمصلحة الأخيرة في إدارة محطات الصراع السوري، بدءاً من سلوكها المريب في معارك حلب إلى دورها الضاغط على جماعات المعارضة للمشاركة في اجتماعات الآستانة ولإنجاح مسارات التهدئة والهدن التي عقدت بإشراف روسي في أرياف حمص وحلب ودمشق.
ولا بأس، في الطريق، من تحسين حصتها، مستقوية، مرة، بالحاجة الماسة إليها في معارك إدلب المرتقبة ضد هيئة تحرير الشام، ومرة ثانية، بميل عربي يدعمها ويدعم خطة موسكو على أمل بمحاصرة التمدد الإيراني وردعه.
ثالثاً، وصول جميع الأطراف الداخلية، من نظام ومعارضة، إلى حالة من الضعف والإنهاك، وقد استنزفت قواها وضاق هامش حركتها المستقلة إلى حد كبير، لتغدو رهن الطرف الذي أنقذها وضمن استمرارها، ما منح روسيا قدرة أكبر على التحكم بمصير هذه البؤرة من التوتر وتطويع أطرافها.
فأنّى لنظام مكنته موسكو من البقاء والصمود واستخدمت الفيتو مرات عدة لحمايته، أن يرفض مشيئتها ويعارض خطتها في استثمار نتائج تدخلها العسكري، بما في ذلك تهدئة مراكز قوى سلطوية خلقها انفلات الصراع الدموي، لا تزال تتمسك بخيار العنف، وتتحسب من أخطار إطلاق عملية سياسية، قد تفضي إلى تفكيك عناصر قوتها ومقومات تماسكها؟
وأي دور لمعارضة سياسية هي الأضعف اليوم والأبعد تمثيلاً للسوريين وطموحاتهم، تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها وتحكمها ارتباطات دولية وإقليمية حولتها إلى مجرد أوراق نفوذ وأدوات تنفيذ، ولا تغير هذه الحقيقة بل تؤكدها محاولات توحيد صفوفها بعد إدراج منصتي القاهرة وموسكو في اجتماعات الرياض الأخيرة على أمل بتشكيل وفد مفاوض موحد ولكن، أقل تطلباً؟
وأي وزن لجماعات المعارضة المسلحة وقد نجحت موسكو في استنزافها وتفريق صفوفها وإجبارها على أولوية محاربة «داعش» وهيئة تحرير الشام، ربطاً بتعدد مرجعياتها الفقهية ومصادر تمويلها وتصاعد ظواهر الاقتتال بين صفوفها وعجزها البيّن عن إدارة مناطقها بروح تحترم حقوق الناس وخياراتهم، وزاد الطين بلة على كل ما سبق بنية تحتية مدمرة وشعب متعب ومنهك يكويه الإحباط والتشرد وغياب الأمن وغلاء فاحش.
ونسأل، إن صح تفاؤل دي ميستورا، هل يزيل هذا النوع من التسويات فتيل الانفجار، بخاصة إن أهمل محاسبة المرتكبين ولم يؤسس سياسياً لبناء مجتمع صحي ومعافى؟ ثم إلى متى قد تبقى بعض الأطراف الدولية والإقليمية راضية عمّا تقدمه موسكو من فتات، قبل أن تعترض وتحرك أوراقها وأدواتها لمقارعة تلك التسوية المزعومة وهز استقرارها؟!
عذراً التعليقات مغلقة