على الرغم من الهزيمة التي مُني بها تنظيم داعش في الموصل، والحصار الذي يعانيه اليوم في الرقّة، فإنّ هزيمة تنظيمٍ على هذا القدر من الوحشية والعقيدة القتالية الانتحارية لم تكن بلا كلفة حقيقية، ولا أعني هنا كلفة الطرف الآخر بشرياً ومالياً، أي الجيش العراقي والحشد الشعبي والأكراد والقوى المعادية له في سورية، ومعهم الإيرانيون والجيش النظامي السوري، الذين يقاتلون التنظيم (وإن كانت حتى هذه الكلفة لم تُعلن بنزاهة وشفافية)، بل أعني الكلفة الكبيرة التي دفعتها المجتمعات والبشر المحاصرون في المناطق التي كان، وفي بعضها ما يزال، يسيطر عليها التنظيم.
يتضمن تقرير نُشر قبل أيام في صحيفة واشنطن بوست الأميركية بعنوان “بعد النصر على داعش.. الموصل تكتشف الكلفة: بيوت تتحوّل مقابر”، معلومات وقصصاً مروّعة عن حجم الكلفة البشرية والمادية والدمار الذي لحق المدينة من أجل هزيمة التنظيم عسكرياً، وهي صورة غيّب الإعلام العالمي نفسه عنها، وتمّ التغطية عليها، كي لا نكتشف حجم الكارثة الإنسانية والبيئية التي حدثت.
ويؤكد التقرير غياب أي أرقام دقيقة صحيحة، غير متلاعب فيها، لحجم القتلى المدنيين الأبرياء، الذين كان ذنبهم أنّهم حوصروا بين وحشية التنظيم والوحشية الأكبر لأعدائه، فتمّ دفنهم أحياء في منازلهم أو تحت الركام، نتيجة القصف العشوائي الذي كان يهدف إلى إنهاء التنظيم من دون أدنى حسابٍ لأي اعتبار إنساني أو قانوني أو أخلاقي لوجود المدنيين.
لا تختلف الحال اليوم، بالمناسبة، في الرقة، ونحن ما نزال على أعتاب المعركة، إذ تشير تقارير عديدة إلى مقتل مئات المدنيين والأطفال الصغار، نتيجة القصف العشوائي. وعلى الأغلب إن تمّ سدّ الطرق أمام مقاتلي التنظيم، وحصارهم في الرّقة، كما حدث في الموصل، فسيقاتلون حتى النهاية، ولن يسمحوا بخروج المدنيين، وهكذا سنكرّر كارثة الموصل في الرقّة، وربما في دير الزور.
عند ذلك، أليس من الإنصاف والمنطقي أن نطرح السؤال الأخلاقي، وإن لم يكن فالسياسي والإنساني والعسكري والاستراتيجي؛ أيّ كُلفةٍ كانت أكبر على الناس والمواطنين الذين يزعم العالم أنّه يريد تحريرهم من تنظيمٍ عدمي همجي؛ هل كانت استمرار التنظيم وبقاءه إلى حين تحلّله وتفككه، بفعل الحصار والحرب النفسية والأمنية والمدروسة، أم الكلفة الإنسانية الباهظة التي رأينا جزءاً منها مما حدث في الموصل، وما قد يحدث في الرقّة؟ هل الهدف هو القضاء على التنظيم فقط؛ لماذا؟ وماذا عن الملايين الذين يتم قصفهم مع التنظيم في المناطق التي كان (أو ما يزال) يسيطر عليها؟
إذا كان تنظيم الدولة الإسلامية قتل مئاتٍ، في العراق وسورية، من المدنيين، مثلاً (لا نتحدث عن الأفراد المسلّحين)، وحرّك عمليات انتحارية قتلت مئاتٍ آخرين في مناطق مختلفة من العالم؛ فكم عدد الذين قُتلوا في العراق وسورية من أجل قتل أعضاء من التنظيم، متحصنين في تلك المناطق؟
دعونا نغوص أكثر في السؤال الأخلاقي، غير المطروح من أغلب المثقفين والمفكرين، لو كان التنظيم تحصّن في مدينة أميركية، ومعه آلاف الأميركيين، فهل سيكون التعامل مع الناس بالطريقة نفسها، كما حدث في الموصل، وهل كان الإعلام سيتغافل عن حجم الكارثة الإنسانية المترتبة على أعمال عسكرية بهذا الحجم؟
بالضرورة، كان يُفترض أن يكون إنهاء وجود التنظيم أن يكون أكبر خدمةٍ تقدّم لأهل الموصل والرقة والمناطق التي كانت تحت وحشيته، لكن الطريق التي تمّ من خلالها الأمر كانت أكثر سوءاً من التنظيم نفسه، والبديل الذي ينتظر من تبقوا من الناس هناك أكثر سوءاً ووحشية من التنظيم، وكأنّ الناس تفرّ من الكوليرا إلى الطاعون.
كان من الضروري أن يكون التعامل مع الحرب على التنظيم، بصورة أكثر حضاريةً، وألا يتم تغييب الأبعاد القانونية والإنسانية والأخلاقية، وحتى الإعلامية، لكن ذلك لم يحدث، بل لا نبالغ إن قلنا أنّ الهمجية والبريرية في الحرب على “داعش” تجاوزت بربريته بأضعاف كبيرة، وكلفتها أكبر من كلفة استمراره. وعلى المدى البعيد، ما حدث لم ينه التنظيم، ولم يغيّر من شروط صعوده، بل ربما على النقيض من ذلك تماماً.
Sorry Comments are closed