يبدو أن الساسة الأتراك يحاولون توسيع نطاق تفاهماتهم مع ساسة النظام الإيراني حول بعض المسائل التي تخص الأمن القومي التركي، وخاصة فيما يتصل بالوضع شمالي العراق وسوريا، حيث قام مؤخراً رئيس هيئة الأركان الإيرانية الجنرال محمد باقري بزيارة هامة للعاصمة التركية أنقرة، بوصفها الزيارة الأولى من نوعها منذ تولي الملالي نظام الحكم في إيران.
التقى باقري كبار المسؤولين الأتراك وفي مقدمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الدفاع نور الدين جانيكلي ونظيره التركي الجنرال خلوصي آكار، وتناولت مباحثاته معهم -بحسب مصادر تركية- مسائل تتصل بالتنسيق الأمني والعسكري بين البلدين، خاصة فيما يتعلق بالموقف من الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان العراق المزمع إجراؤه في 25 سبتمبر/أيلول المقبل.
كما بحثا سبل مواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) وفرعه الإيراني، ومواجهة مخططات فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وجناحه العسكري “وحدات حماية الشعب”، والوضع في محافظ إدلب السورية التي تواجه تهديداً بأنها ستلقى مصيراً مشابهاً لمصير الرقة أو الموصل.
منطق تفاهم الضرورة
يعارض كل من الساسة الأتراك والساسة الإيرانيين الاستفتاءَ وما سيتمخض عنه في إقليم كردستان العراق، إلا أن هناك اختلافا في الدرجة وفي الخلفيات والمواقف التي ينطلقون منها، حيث يشدد الطرفان على وحدة العراق ووحدة سورياأيضاً، في حين أن واقع الحال يكشف أن القادة الأتراك والإيرانيين لا ينظرون إلى وحدة العراق وسوريا إلا بقدر ما يخدم مصالح بلادهم وأمنها القومي.
ويأتي حرصهم على البلدين من الحرص على ألا تمدد نتائج الاستفتاء إلى كل من الداخل الإيراني والتركي، خصوصاً أن ملايين الأكراد يعيشون في إيران وتركيا، مما يشكل عاملاً محرضاً لمطالبة القوى السياسية الكردية في كلا البلدين بخطوات استقلالية.
ويضيف المسؤولون الأتراك أن القوى السياسية الكردية تستغل ظروف عدم الاستقرار التي يشهدها كل من العراق وسوريا والحروب الدائرة فيها للقيام بخطوات انفصالية، فضلاً عن أثر ذلك على التنوع الإثني والقومي فيها، وقيام القوى الكردية المسيطرة بعمليات تغيير ديموغرافي في المناطق التي تسيطر عليها، عبر عمليات تهجير للسكان التركمان والعرب.
وكشف الرئيس التركي أردوغان عن اتفاق مع الطرف الإيراني للقيام بعملية “عسكرية مشتركة ضد الإرهاب” جرت مناقشتها خلال زيارة باقري لأنقرة، ويقول إن تنفيذها “ممكن في أي لحظة ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي وحزب حرية كردستان الإيراني”، وهو أمر يحصل للمرة الأولى في تاريخ علاقات البلدين المتنافسين تاريخياً في الشرق الأوسط.
ويرفض النظام الإيراني الاستفتاء على استقلال كردستان العراق رفضاً تاماً، ويسكن في خلفية هذا الرفض تخوفٌ من أن يتعدى الأمر مجرد استفتاء إلى إعلان استقلال الإقليم، مما يعني أن العدوى الانفصالية ستمتد إلى الداخل الإيراني الذي يتميز بوضع مختلط كثيراً في تركيبته السكانية والاجتماعية، ويعاني فيها كل من الأكراد والعرب والبلوش والأذريون من كبت وقمع وحرمان من أبسط حقوقهم القومية.
لذلك يخشى النظام الإيراني من إرهاصات قيام دولة كردية في شمالي العراق، ووصولها إلى الأكراد الإيرانيين الذين ما زالت تسكن مخيلتهم “جمهورية مهاباد” التي تشكلت عام 1946 ولم تُكمل سنة واحدة من عمرها، حيث أسقطها الشاه محمد رضا بهلوي بصفقة مع الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة في ذلك الوقت.
وبالتالي ليس مستغرباً اعتبار النظام الإيراني الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان مهدِّداً لوحدة العراق، لأنه يُخفي في ذلك محاولاته للهيمنة والسيطرة على العراق ومقدراته بطرق مختلفة، وتخوفه من تأثيره على الشعوب الإيرانية، وخاصة أكراد إيران الذين واجهوا منظومة قمع هذا النظام، وتعرضوا لإعدامات وتصفيات وملاحقات.
ولعل اللافت أن قيادات حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل تغاضت عن ممارسات النظام الإيراني، مثلما تغاضت عن ممارسات نظام الأسد حيال أكراد سوريا، ورضيت لنفسها أن تكون ورقة بيد طهران ونظام بشار الأسد الإجرامي، اللذين استخدماها للضغط على تركيا وخوض المعارك وإثارة القلاقل فيها.
وقد وفر نظام الأسد -بنسختيه الأب والابن- كل السبل لخوض مقاتلي هذا الحزب معاركهم ضد تركيا، كما وفر له ممكنات سيطرة فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي على مناطق شمالي سوريا.
يتضح من مواقف الساسة في تركيا وإيران من قضايا المنطقة أن العلاقات بين البلدين محكومة على المستوى السياسي بمحددات معينة حول قضايا العراق وسوريا، وخاصة القضية الكردية التي يستقوي الطرفان بموقفهما منها المعارض لإجراء استفتاء في لإقليم كردستان العراق بموقف أميركي يعارض توقيت الاستفتاء، نظراً لخوفه من تأثير إرهاصات الاستفتاء على مسار الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بوصفها أولوية في الإستراتيجة الأميركية بالمنطقة.
لذلك تخشى الإدارة الأميركية من الانشغال عن الحرب التي تقودها ضد “داعش” بمعارك جانبية بين اللاعبين الإقليميين والمحليين، في حين أن الطرف الروسي يؤيد التفاهم والتنسيق بين أنقرة وطهران، ويركز جهوده على الجمع بينهما في مسار أستانا، ويدفع بهما لكي يكونا شركاء له في رعاية الاتفاقات التي تنتج عن هذا المسار وضامنين لها.
وهو أمر يفسر به بعضهم الانعطافة التركية في الملف السوري منذ السيطرة على مدينة حلب، إذ لجأت القيادة التركية إلى بناء تفاهمات وتحالفات الضرورة مع كل من الساسة الروس والساسة الإيرانيين في الملف السوري، بعد أن أشاحت الولايات المتحدة وجهها عن مطالب أنقرة، ومنعت فصائل الجيش السوري الحر المنخرطة في عملية “درع الفرات” من التقدم باتجاه منبج.
ثم قدمت الدعم العسكري الكبير للجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، ورفضت أي مشاركة تركية في معركة السيطرة على الرقة، ولم تُبدِ أي تفهم لمخاوف تركيا من مساعي هذا الحزب للسيطرة على مناطق واسعة شمالي سوريا، ومخططاته لتشكيل كيان معاد لتركيا بما يمثله من تهديد لأمنها القومي.
بين التفاهم والتنافس
غير أن العلاقات التركية الإيرانية محدودة بهذه التفاهمات التي تجد أنقرة نفسها مضطرة لإبرامها مع الإيرانيين، حتى وإن اقتضى الأمر مقايضة وفق منطق البازار الذي يتقنه النظام الإيراني.
وقد يتطلب ذلك من القيادة التركية تخفيف لهجتها الرافضة لبقاء نظام الأسد، مقابل التفاهم على القيام بعملية عسكرية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، والوقوف في وجه طموحات فرعه السوري الذي تشهد سنوات الصراعفي سوريا على تنسيقه وتعاونه مع نظام الأسد، وخوض قواته معارك إلى جانب قوات النظام والمليشيات الطائفية ضد الجيش السوري الحر في الشمال السوري.
وقد تمتد التفاهمات التركية الإيرانية إلى محافظة إدلب التي تنتظر مصيراً مشابهاً لمصير كل من الموصل والرقة، ويحظى ذلك بمباركة روسية، خاصة أن سيناريو تمدد قوات سوريا الديمقراطية نحو محافظة إدلب -بدعم أميركي عسكري وسياسي- يجري تداوله في أوساط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بحجة القضاء على إرهاب تنظيم القاعدة.
وهذا التمدد هو ما تخشاها تركيا لأنه يعني توسيع الكيان الذي يسيطر عليه هذا الحزب الذي تصنفه تركيا في خانة المنظمات الإرهابية، ولذلك بدأ سيناريو آخر يجري الحديث عنه مؤخراً على خلفية التفاهم التركي الإيراني، ويتمثل في أن تهاجم المليشيات الشيعية الإيرانية إدلب من الجنوب، فيما تهاجمها الفصائل السورية المعارضة المنضوية تحت “درع الفرات” من الشمال وبغطاء جوي روسي، وهذا السيناريو تفضله أنقرة، لكن إمكانية تحقيقه تتطلب ظروفاً دولية ملاءمة وخاصة موافقة الطرف الأميركي.
ورغم تفاهمات الضرورة ما بين الطرفين التركي والإيراني، فإن العلاقات بينهما محكومة بتنافس شديد في المنطقة نظراً لاختلاف الأجندات والمشاريع، ولا يمكن أن تتطابق وجهات النظر بين البلدين حول كل ملفات المنطقة، خاصة أن التنافس بينهما يضرب عميقاً في التاريخ.
فقد سادت لعبة الاحتواء والمداراة في مواقف البلدين طوال السنوات الماضية، وكان التنافس الإقليمي بينهما يقوم على لعبة من “التوازان القلق” -دون إخلال به- منعاً للدخول في صراعات، رغم اختلاف الدور الإقليمي لكل منهما، وتباعد المواقف السياسية من ملفات المنطقة الساخنة، وخاصة بعد اندلاع الثورة السورية.
حيث ظهرت أولى الخلافات التركية/الإيرانية في الموقف من الأزمة السورية، حين أصرت القيادة التركية الحاكمة على المطالبة برحيل الأسد، وقابلها النظام الإيراني بتحريك الورقة الكردية بوصفها ورقة ضغط لتغيير الموقف.
وكان هدف طهران التحذير من أن سقوط الأسد سيجعل الأتراك أنفسهم في مواجهة الأكراد بكل من سوريا وتركيا نفسها، من خلال حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي. ولذلك يبرز السؤال عن حدود التفاهمات الجديدة ومدى تحققها وصمودها؟
عذراً التعليقات مغلقة