مُحرّك البحث غوغل مصدر جيد لنبش ببلوغرافيا الشخصيات العامة. يعطيك نتائج بلا نهاية عن مشاهير ومغمورين، لكن غالبية معلوماته متشابهة.. بعد سماع خبر وفاة الفنانة فدوى سليمان، تجد نفسك، مع باقي السوريين، تستخدم “غوغل” هذا لتستعيد تفاصيل عن الفنانة الثائرة، فتشاهد مئات الأخبار والصور. تعطي قائمة نافذته البحثية لاسمها صفاتٍ ومواقفَ كثيرة، لتبحث فيها بالطريقة التي تعجبك: فدوى سليمان ممثلة، فدوى سليمان الثورة السورية، فدوى سليمان جاسوسة..
النتائج الكثيرة عطش جماهيري جارف غير موجه، قد يؤكد ما يعتبره فرويد كامناً في الأنا منخفضة القيمة، والتي يدعوها “اللا شعور”. ومهما تكن الصفات التي تضعها الخياراتُ غريبةً ومتطرّفة، لا يجب إساءة الظن بالجماهير، فهي نفسها التي خرجت في جنازة الشاعر نزار قباني، وهي نفسها التي ثارت على أنظمة الاستبداد، وهي الجماهير التي قادتها الفنانة في شوارع “البياضة” و”بابا عمرو” بهتافاتٍ بسيطة مع آمال كثيرة، وهي الجماهير التي فقد أبرياؤها حياتهم اختناقاً في غوطة دمشق، في أمسيةٍ مثل هذه، حينما كان الموتى ينتظرون موسم الدرّاق والخوخ.. القائمة المنسدلة لخيارات البحث غير حقيقية، وغالباً تعتمد على ما وُضع ليكون مفاجئاً أو غريباً من باب تسويق بعض المواقع، أو معظمها، لأن المكتوب تالياً في غالبه يقدّمها بوصفها الثائرة العفوية التي تعرف أن تطالب بما تريد بأقصر الجمل، وأعلاها نبرةً وأكثرها إصراراً.
عندما تفرز الثورات أيقوناتها، وتعرضهم لتعبر عن نفسها، تقف مدة طويلة أمام ملابسات حياة شابة، أرادت أن تصبح ممثلة، بأدوار صغيرة أو كبيرة، وتقف فوق مسارح خشبية أو أمام كاميرات تلفزيونية، لكنها وجدت نفسها في موقفٍ أعلى بكثير، حين تعتلي برميلاً معدنياً كان يحتوي مشتقاتٍ نفطية، وتشرف من مكانها الذي يرتفع متراً واحداً عن سطح الأرض على حدقات عيون الآلاف، وتلقّنهم نشيداً قصيراً يردّدونه بقوة وثبات، قبل أن يلعلع الرصاص الذي يخاف من الأصوات الجريئة. وقفت فدوى هناك، ولم تكن الكاميرات عالية الدقة، بل مهتزّة ومعلقة بهواتف محمولة، تريد أن تقتنص لحظاتٍ، لتعرض على العالم قليلاً مما يحدث، والصبية جزءٌ من ذاك الذي كان يحدث، تشارك في صناعته وتشكله بصوتها وأدائها وبجسدها النحيل.
ذوت هذه الأيقونة الصغيرة في سنيها الأخيرة بهدوء، بعيداً عن الصخب. واجهت الموت في غرفةٍ مقفلةٍ بعيدة عن رحابة الشارع، وحتى عن استديوهات الدراما، غريبة في المنفى، مسجلةً سيرة حياة قصيرة جداً ومختصرة جداً وعالية الكثافة، مثل سيرة حياة النباتات الموسمية، تنمو وتخضرّ في أقل مساحة، وأقل قدر من الماء. هكذا استطاعت فدوى أن تعبر بأقل قدر من البذخ البلاغي عن روح الشارع الذي هتفت باسمه، فقد استعادت كل المواقع وقوفها وهتافها وصوتها وصدقها، كأنها تعيد إنتاجَ طهارة الأيام الأولى للثورة. يدان عاريتان وذقن مرتفعة، وأنوثةٌ تفوق ذكورة المظاهرات، بكل نقاء الماء المقطر، وبهاء الغيم شديد الارتفاع، كانت فدوى الصورة التي يتمنى الجميع أن يكون حاضراً فيها.
هذه مناسبةٌ للبكاء، ويمكن أن تكون مفارقةً ساخرة أيضاً، ونحن نعزّي في فدوى، وفي قيم التعايش المشترك لوطنٍ بات مقطّع الأوصال، ويتوجه بقوةٍ إلى مزيدٍ من التفتت والانشطار، وتعيث فيه المليشات الملونة، أو ذات اللون الواحد، أو حتى عديمة الألوان. ويعشّش الموت في كل ركن، وقد أصبح التجارة الوحيدة الرائجة. لا يوجد وجهٌ واحدٌ يمكن أن نربط به هتافات الممثلة الراحلة مع تراجيديا اللحظة، حيث الحضور الطاغي للخراب واضح. لم تكن الصبية اليانعة تعتلي سدّتها الصغيرة وتهتف لنصل إلى هنا، ولكن ذلك حدث على حطام صوتها وبقايا كلماتها التي داستها جنازير الدبابات، أخفى الواقع الظالم فدوى، كما أخفى كثيرين قبلها. لكن يحق لي أن أطلق للأحلام عناناً، وأهمس لفدوى: ليتكِ بقيتِ معنا..
عذراً التعليقات مغلقة