تتصف الثورة السورية بصفاتٍ نوعية تنفرد بها من دون معظم ثورات وطنناالعربي، اكتسبتها من خلال:
أولا، حجم الكتل المجتمعية التي شاركت فيها، وتنوع قطاعاتها، وتغطيتها الأرضالسورية من أقصاها إلى أدناها، فقد نزل ذات يوم جمعة إلى شوارع قرى وطننا وبلداته ومدنه ثمانية ملايين، أي 35% من مجموع السوريين إناثا وذكورًا، وهم يهتفون للحرية ولوحدة الشعب والوطن، وهي نسبة فريدة في تاريخ الثورات، قديمها وحديثها، أضفت على الحراك السوري طابعا مجتمعيا لا حدود له، جعلته حراك شعبٍ، وليس حراك فئة أو طبقة أو جهة أو جماعة أو حلف سياسي… إلخ. كان هذا الطابع المجتمعي الواسع سلميا سبعة أشهر، على الرغم من أعداد من سقط برصاص سلطةٍ استهدفت جسدية المجتمع، لاعتقادها أن انفكاكه عن مطالبه من خلال ضغط عنفها المفرط سيعني انفراط عقد ثورته، وإفراغها من حاملها الوطني الجامع، وإفراغ أهدافها من شرعيتها وقدرتها التعبوية المذهلة. طمرت الثورة النظام بكثافة مجتمعية، جسّدت غضب الوطنية السورية على أشخاصه وممارساته التي لم يسبق أن عبر عن ما يماثله هو أو أي شعب عربي، وربما أجنبي، آخر.
ثانياً، حجم من حملوا السلاح، وكانوا بداية الثورة متظاهرين سلميين، ثم أجبرهم عنف السلطة المسلح على الرد عليها بعنف مضاد. جسّدت أعداد من انحرطوا في العمل المسلح كثافة المتمسكين بأهداف الحراك السلمي الذين لم يترك القتل الممنهج واليومي المتفاقم أي خيارٍ لهم غير الهجرة أو الخروج من الثورة (بصورة دائمة أو إلى حين)، أو حمل السلاح ضد النظام أو إلى جانبه، وكذلك تأييد وجهات نظره حول الإرهابيين وحماية الأقليات. بما أن عنف الأسدية اتسع بسرعة وغطى مجمل الأرض السورية، فإن عددا هائلا من ضحاياه المدنيين والعزّل اختاروا الرد على سلاحه بسلاحهم، وقد عبرت كثافتهم عن استمرار هوة العداء بين الشعب وبينه وتعاظمها، وأبقت على الحضور الشعبي في صراعٍ أخذ يصير إقليميا ودوليا. كانت هذه المقاومة وظلت شرعية، على الرغم مما شاب بنى التنظيمات المسلحة وعملها من عيوبٍ جسيمة، كانحراف قسم كبير منها نحو عسكرة مطيفة/ متمذهبة، لا تلتزم بنادقها المشتتة والمتعادية بقيادة سياسية أو عسكرية موحّدة وذات هوية ومدى وطني، وعدم تحول فصائلها جميعها، بما فيها التي انتمت إلى الجيش الحر، إلى مقاومة أي تشكيلات موحدة تمارس قتالا منظما، مستمرا ومتكاملا ضد سلطةٍ طغيانيةٍ تقتل شعبها، وتهجره من جميع ربوع وطنه، يستحيل ردعها وإسقاطها من دون قيادة عسكرية خبيرة ومركزية، تطبق استراتيجية سياسيةً، تترجمها إلى معارك شاملة، تغطي مجمل الرقعة السورية مرة أو مرتين في العام، وتشن في وقت واحد أو متقارب، على أن تشارك فيها تشكيلات موحدة، تخضع لقيادة لا رادّ لأوامرها، تدير جميع من يحملون السلاح ضد النظام، المتهيكلين في وحداتٍ منتشرة في جميع مناطق سورية، تتكامل وظائفها الميدانية على الرغم من تباين مهامها، تكون متراتبة التنظيم، مدرّبة وقادرة على خوض معارك منسقة، يعرف قادتها كيف ينجزون مع كل هجوم استراتيجي يقومون به خطوة إضافية نحو انتصار الثورة وحرية الشعب.
ثالثاً، حجم التضحيات التي قدمها الشعب السوري، وما أبداه من قدرة إبداعية على ابتكار معادلات صراعية، وطاقات صمود، لم تكن تخطر ببال أكثر المتعاطفين معه، والمنخرطين في ثورته. عموما، كان عدد كبير من أفراد النخب المعارضة يعتقد أن السلطة السورية ألغت مجتمعها وغدت مطلقة القوة، وأن السوريين ضعفاء وممزقون، ويفتقرون إلى التصميم والعزم الضروريين للتمرّد على الأسدية. ثم عندما قام التمرد، تبين أنهم أقوياء أكثر مما افترض أي معارض. أولا: لأنهم تمكّنوا من الانتقال من السلمية إلى العمل المسلح وهم تحت نيران مدافع جيش النظام وصواريخه وشبيحته، ونجحوا في ذلك من دون أن تتوفر لهم قيادة موحدة وخبيرة (فيما بعد ومع إطالة الحرب سيصبح غياب هذه القيادة أخطر مشكلة تواجهها الثورة)، بل إنهم نجحوا أيضا في كسر تفوق النظام العسكري، ودمروا عصاباته المسلحة، وطردوه من 65% من الأرض السورية، وكادوا يطيحونه عام 2012، ويقتلعون الأسدية من شروشها، لولا لم ينقذها أول مرة تدخل إيران ومرتزقتها. وفي المرة الثانية، عام 2015، غزو روسيا وشنها حربا شعواء على الشعب والجيش الحر. وثانيا: لأن السوريين صمدوا في وجه حرب إقليمية/ دولية، شنتها دول وقوات متعدّدة الجنسيات، منها روسيا، بما تمتلكه وتستخدمه من أسلحة متطورة وجيش خبير جدا في قمع أماني الشعوب وتطلعاتها وثوراتها.
كان النظام يعتقد أن الثورة في سورية ضرب من الاستحالة، والسبب أنه لا يوجد فيها شعب حتى يقوم بثورة، كما صرح بشار الأسد قبل أيام من انفجار التمرد المجتمعي الهائل. وعندما وقعت الانتفاضة، قيل عموما إنها لن تستمر غير أيام قليلة. وحين تسلح السوريون قيل إنهم لن يصمدوا في مواجهة جيش منظم ومسلح، يفتقر إلى أية روابط وطنية معهم، ولن يتردّد في استعمال أقسى أنواع العنف ضدهم.
أخيرًا، وحين مالت موازين القوى لصالح السلطة، قيل إن انهيار الشعب غدا وشيكاً، وصموده مستحيلا، وها نحن في العام السابع من الصراع، والعام السادس من التدخل الإيراني الكثيف، والثالث من الغزو الروسي الواسع، ومجتمعنا القوي واقفٌ على قدميه، بفضل روح الحرية الحية في صدور بناته وأبنائه، وشحنة الكرامة التي زرعتها انتفاضته في قلوب مواطناته ومواطنيه، ويستحيل أن يخرجه أحد خلو الوفاض من أي حل سياسي، لأن العالم سيجد نفسه مرغما على إعطائه بعض ما طالب به، فالشعب الذي حقق هذه الأعاجيب يستطيع مواصلة نضاله المشروع بوسائل أخرى تغطي العالم، ومن حفزه حب الحرية وكره الاستبداد إلى تقديم أكثر من مليون شهيد، لن يبخل بالمزيد، في حال قرّر العالم إخراجه صفر اليدين من صراع غدا وجوده مرتبطا بنمط حله، إن تهاون فيه خسر نفسه باعتباره شعبا، ودخل في حقبة ما بعد سورية، سيكون ضربا من الاستحالة لم شتاته بعدها.
رابعاً، ليس بين القرارات الدولية بشأن تسوية الصراع السوري فقرة واحدة تتعارض مع مصالح الشعب والثورة، وليس بينها قرار واحد لصالح النظام الأسدي الذي تلزمه وثيقة جنيف بإخلاء مكانه وتسليمه لنظام ديمقراطي بديل له. لنفترض الآن أن الأمور آلت إلى رفض تطبيق هذه القرارات الدولية: هل يعني ذلك أنها لم تعد ورقة قوية في يد شعبنا وممثليه، إن أحسنوا الإفادة منها أمكنهم إشهارها في وجه أعداء حقوقه، وواصلوا نضاله استنادا إلى ما تمنحهم إياه من قوة معنوية لم يفد أحد منها إلى اليوم، على الرغم من أهمية الشرعية القانونية، وخصوصا منها الدولية، بالنسبة لمآلات الصراعات الكبرى ونهاياتها، لكن حسن استخدامها يمكن أن يبدّل كثيرا من مفردات صراعه ضد الاستبداد وممارساته ونظامه.
خامساً، حجم الجاليات السورية ودورها في المواقع المفتاحية من العالم، وتمتّعها بخبراتٍ رفيعة المستوى، تمتلكها شخصيات وطنية فاعلة ومؤثرة داخل مجتمعاتها، تستطيع المبادرة إلى نسج علاقاتٍ نشطة مع أوساطها السياسية والبرلمانية والإعلامية والاقتصادية والثقافية، التي تلعب دورا مفتاحيا في مواقف حكوماتها وبرلماناتها وأحزابها ورأيها العام، فإن نجح تفعيلها كجاليات منظمة لعبت أدوارا لا تقل أهمية عن الدور الذي يلعبه الداخل، وأمكنها القيام بالكثير مما كان يقوم به، في حال تعرّضه لانتكاسات تقوّض دوره وحقوقه. ثمة اليوم مجتمعان سوريان، واحد في الداخل وآخر في الخارج، فإن تكامل التنسيق بينهما، بحيث يتقدّم دور الخارج بقدر ما يتراجع دور الداخل وبالعكس، فتح السوريون جبهة لا يستطيع النظام مواجهتها أو السيطرة عليها، بوسعها إلحاق هزائم دولية جدية ومتلاحقة به، وتشكيل رافعة للنضال الوطني/ الديمقراطي العام، بما تمتلكه من قدرةٍ على ممارسة شتى أنواع الضغوط عليه، وعزله دوليا، ورفد معركة الحرية ضده بأشكال قانونية وحقوقية وسياسية جديدة ومؤثرة.
لا يستطيع أحد في عالمنا الذي فشلت دوله في كبح ثورة السوريين الوطنية /الديمقراطية وإخمادها، تجاهل حقوق شعب تطالب اليوم قطاعات واسعة من نخبه وحراكه المجتمعي داخل وطنه وخارجه، بتنظيم قدراته بطرق تحول دون تكرار الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها مؤسسات المعارضة منذ انطلاق الثورة، وتسمح بملاقاة التطورات المحتملة من موقع وطيد: ديمقراطي الخيارات وطني الهوية والأبعاد، يستأنف رهان الثورة الأصلي باعتبارها ثورة حريةٍ لشعب سوري موحد، ترفض المذهبية والطائفية وتنظيماتهما في النظام ومرتزقته، وفي ثورة “داعش” وجبهة النصرة المضادة. هذا الزخم المبارك الذي يقدم دليلا إضافيا على قوة المجتمع السوري وشرعية ثورته، يستطيع حمل قضيته العادلة إلى آفاق جديدة، والحؤول دون تجاوزها إقليميا ودوليا، وإبقاء جذوتها متقدة إلى أن يستجيب العالم لرغبات شعبها الذي قدّم ملايين الشهداء والجرحى والمعتقلين والمغيبين من أجل حريته: أثمن ما يمكن أن يضحي شعب من أجله، إن كان يريد حقا تحرير المجال السياسي من الاستبداد، وإقامة دولة العدل والمساواة والمواطنة المتساوية، وحفظ كرامة السوريين الإنسانية.
قد لا ينال الشعب السوري جميع ما طالب به. وفي المقابل، لن تتمكن قوة من إبقاء النظام الأسدي رابضاً على صدور السوريين. ولن ينجح أحد في استعادة الوضع الذي كان سائداً قبل الثورة عليه، وستخرج سورية الجديدة من حطام سورية الأسدية، وسيبني شعبها المجدّ والموهوب، والذي قام بثورة تعلم كل مواطن في عالمنا أن في وسع عينه أن تلاطم مخرز الاستبداد، إن صمم على التضحية من أجل حريته. ولن يكون بعيدا الزمن الذي سيذكّرنا بأفضال شهدائنا على الناجين منا الذين سينعمون بوطنٍ لا يشبه في شيء معسكر الاعتقال الأسدي الذي دمرناه، ولن يكون باستطاعة أحد إعادتنا إليه تحت أي اسم أو ذريعة.
عذراً التعليقات مغلقة