ثانياً، لا أرفض فقط اعتبار المسيحية “قوميةً”، بل وأزعم أن اعتبار المسيحية “ثقافة”، وبالتالي الدعوة إلى تأسيس كيان مسيحي ثقافي مستقل أمر غير مصيب. منذ نشوء جماعة يسوع المسيح في القرن الأول الميلادي، والمسيحيون لم يكونوا يعتبرون أنفسهم كيانا ثقافيا قائما بذاته في مواجهة وتوازٍ مفارقين مع الثقافات السائدة وقتها: الهيللينية، الشرقية، الرومانية، الهندية، الصينية… إلخ. لا بل إن المسيحيين الأُول لم يعتبروا أنفسهم أتباع “دين” قائم بذاته، بل أتباع طريقةٍ في الإيمان بالله والعلاقة معه، في ضوء فهمهم لتلك العلاقة من خلال ما تعلموه من يسوع الناصري. ولهذا، نقرأ في نصوص واحدٍ من أقدم آباء المسيحية في القرن الثاني ميلادي، أثيناغوراس، تأكيده أن المسيحية إعلان نهاية الأديان برمتها، وليس ولادة دين جديد، إلى درجة أن المجتمع الروماني وقتها كان يعتبر المسيحيين، كما يقول أثيناغوراس، “ملاحدة الإمبراطورية”. الدعوة إلى تأسيس كيان مسيحي ثقافي (وليس فقط قومي) دعوة نافلة، وبلا معنى، ولا تماهي مع طبيعية المسيحية الأصلية. ليست المسيحية ثقافة، وإن ساهم المسيحيون عبر التاريخ، فكرياً ومجتمعياً وإنسانياً وأدبياً وفنياً وسياسياً واقتصادياً وبشرياً، وبشكل فاعل وعميق، في تشكيل ثقافات وحضارات عديدة في المشرق والمغرب، فهم جزء من المجموع البشري الذي ساهم في إنتاج الثقافة/ الحضارة العربية- الإسلامية في المشرق، وكذلك كانوا أيضاً من المساهمين (مع اليهود) في إنتاج الثقافة/ الحضارة الهيللينية في العالم الروماني القديم، مثلما ساهموا في تشكيل ثقافات عصر النهضة وعصري التنوير والحداثة، وصولاً إلى ما بعد الحداثة في عالم اليوم. ولكن، لا يجعلهم هذا، بحد ذاتهم، كياناً بشرياً منفصلاً عن الآخرين، بدلالات ثقافية (ناهيك عن قومية) قائمة بذاتها، تشكل ما يسمى “كيانا ثقافيا مسيحيا”.
في ضوء النقطتين السابقتين، أنتقد بشدة دعوات نسمعها في الأوساط المسيحية عن تأسيس كيان مسيحي سوري، بدلالات قومية (كما يفعل بعض السريان/ الآشوريين) أو ثقافية (كما بدأ يفعل بعض الأرثوذكس، متأثرين بفكر مسيحي انعزالي آتٍ من لبنان) في سورية المستقبل. لا بل وأدعو جميع الشرائح السورية (بما فيها العربية والكردية) التي تصرّ على تعريف نفسها بدلالة فكرة “القومية”، أو بدلالة فكرة “الثقافة”، للتأكد ما إذا كانت أيٌّ من الفكرتين تنطبقان على طبيعتها وتركيبتها السوسيولوجية والتاريخية والمعرفية، وما إذا كان تقديم الذات بدلالة أحد هذين المفهومين يضع تلك الشرائح فعلاً في سياق عالم اليوم والفكر المعاصر، أم أنه يحبسها في غياهب فكر ماضوي تراجعي ونكوصي، ما عاد يُعوَّل عليه اليوم، وما عاد يُعتبَر فكراً مرجعياً في تفسير الذات والوجود.
المسيحيون، كما يقول تاريخ المسيحية، مساهمون فاعلون ومركزيون، أينما وجدوا، في بناء ثقافات وحضارات جامعة مع باقي التجمعات المكوّنة معهم، لكيان شعوبي أممي في منطقة جغرافية ما. وهم يعملون دوماً على تشكل كيانات تشاركية وتفاعلية، وليس على إيجاد كيانات ضيقة ومغلقة، تقتل أفرادها وتخنقهم في إقصائيتها وانعزاليتها، قبل أن تعادي سواهم، وتقصيهم بعيداً عنها. وفي النهاية، ما تتحتاجه سورية المستقبل هو التكافل والتعاضد بين المتعدّدين والمتنوعين، لا شيء آخر.
عذراً التعليقات مغلقة