أي رسائل أراد «حزب الله» أن يوجهها من خلال معركة جرود عرسال التي خاضتها ميليشياته، ولمن؟ وما هي وظيفة المعركة في الزمان والمكان؟
قد تختلف قراءة «المشهدية»، التي قدمها «حزب الله» خلال الأسبوعين الماضيين، باختلاف زاوية الرؤية، غير أن ثمة استنتاجاً لا يحتمل كثير تأويل، وهو أن لبنان «الدولة والمؤسسات» كان صامتاً، متفرجاً وهامشياً في معركة تدور على أرضه، تقوم بها ميليشيا تُسخّر إمكانات المؤسسات الرسمية سواء العسكرية أو الأمنية أو القضائية لخدمتها، من دون أن يرف أحد جفناً أو ينبس ببنت شفة. مشهد سريالي بإمتياز، لكنه يفيض في دلالاته لحجم القبضة الإيرانية على لبنان، والتي تُشبه القبضة السورية في زمن وصاية دمشق على بيروت، ولتحويل لبنان من مرحلة التعايش بين الدولة والدويلة إلى مرحلة التحاق الدولة بالدويلة!.
صمت رسمي قابلته «براعة» من قبل «حزب الله» في إدارة المعركة الإعلامية. فإلى الوسائل الإعلامية المحسوبة عليه وتلك الدائرة في فلكه، نجح في إحتواء وسائل الإعلام المحسوبة على الوسط المسيحي غير المنضوية أصلاً في بوتقته. فتحّول الإعلام صوتاً واحداً ونسخة مكررة عن بعضه البعض وأداة تضخيم وتعمية وتسطيح لم يسبق لها مثيل، يديره «الإعلام الحربي» التابع للحزب كمصدر وحيد للمعلومات ولمجريات الحدث، ما شكّل تجربة جديدة في كيفية «عسكرة الإعلام» وتحويله أدوات تلقين ومنصات تعبئة في خدمة تمجيد «نصر رجال الله» والتي أكدت التطورات اللاحقة أن معركة الجرد كانت إعلامية أكثر منها معركة عسكرية، ذلك أن «الهالة» التي سعى الأمين العام للحزب حسن نصرالله إلى إضفائها على المعركة بوصفها انتصاراً عسكرياً وميدانياً كبيراً، نظراً إلى إمكانات المسلحين والطبيعة الجغرافية المعقدة والصعبة وأعدادهم الكبيرة وتحصنهم في المغاور والكهوف، أصيبت في الصميم، بعدما ظهر أن عدد المسلحين لم يتعد المئتين، مع ما كشفه المفاوض اللبناني المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بعيد إنجاز الاتفاق من أن عدد مسلحي «النصرة» الذي سيغادر إلى إدلب هو 120 عنصراً، ومع تقدير «الإعلام الحربي» سقوط نحو 70 مسلحاً، على الرغم من أنهم أحصوا 47 جثة.
أرقام تكشف وهم «الانتصار الذي فاجأ الجميع» وفق توصيف نصرالله، والذي يعلم علم اليقين أن هذه الجرود هي ساقطة عسكريا بكونها محاصرة من مختلف الجهات، من قبل «حزب الله» وتنظيم «الدولة الإسلامية» والجيش اللبناني الذي أحكم عليهم الطوق بحزام أمني فَصَل به الجرود عن عرسال البلدة، وأن الفرق شاسع في إمكانات المعركة التي كانت اليد الطولى به لسلاح الطيران الجوي السوري ولمدفعية الجيش اللبناني، والأهم من ذلك إدراكه أن المفاوضات التي سبقت عملية الضغط العسكري وتضمنت رعاة إقليميين، وتلك التي ستليها ستُنهي هذا «الجيب» المسلح في جرود عرسال المتداخلة بين الحدود اللبنانية- السورية على السلسلة الشرقية وجرود فليطة في القلمون الغربي السوري، لاسيما أن التسوية ستتضمن خروجهم مقابل إطلاق «أسرى حرب» للحزب وقعوا بيد «جبهة النصرة» في العمق السوري.
غير أن للمعركة مغزاها ووظائفها، فهي تأتي في لحظة تحولات تشهدها الأزمة السورية مع الاتفاق الأمريكي- الروسي الذي باركه ترامب وبوتين على هامش قمة هامبورغ، حول جنوب سوريا الغربي الذي شمل محافظتي القنيطرة ودرعا، والذي قضى بوقف إطلاق نار وهدنة وانتشار للشرطة الروسية، وإقامة منطقة خالية من الوجود الإيراني وميليشياتها، بغية حماية الحدود الإسرائيلية- السورية والأردنية- السورية، في وقت كان «حزب الله» يعمل بكل قوته للتمدد على الخط الحدودي مع إسرائيل عبر خلق مجموعات سورية تنضوي ضمن «حزب الله»- فرع سوريا في استعادة لتجربة سيطرة «حزب الله» على الحدود اللبنانية مع إسرائيل قبل أن يحظّر قرار مجلس الأمن 1701 بعد حرب تموز/يوليو 2006 التواجد عسكريا في منطقة جنوب نهر الليطاني.
ففي الوقت الذي كان يفترض أن تنصب الأنظار على انتكاسة حلم إيران ووكيلها «حزب الله» بالتمدد على خط الحدود الإسرائيلية والحدود الأردنية، وعلى تداعيات ذلك على بيئة الحزب وحاضنته الشعبية مع «الخروج الأول»، جاءت معركة جرود عرسال لتحرف الأنظار عما يجري في الجنوب السوري، حيث «النصر» فيها مضمون ومحقق، ويعزف على وتر محاربة الإرهاب في هذه الجرود التي عبرت منها سيارات مفخخة وانتحاريون ليضربوا في عمق الضاحية الجنوبية-عرين الحزب.
هو نصر يمكن توظيفه أيضاً في ذاكرة شرائح لبنانية أخرى ممن ضربها الإرهاب في قراها الحدودية، كما هو حال بلدة القاع المسيحية في الهرمل على الحدود الشرقية- الشمالية مع سوريا، حيث أتى تنظيمها احتفالاً شعبياً لاستقبال أسرى «حزب الله» ليتخطى المظهر التضامني إلى تعبير إمتناني يسكن العقول والنفوس للحماية التي يشكلها سلاح «حزب الله» لهم كجماعة مسيحية، في وجه الخطر الآتي الذي يلبس لبوساً سنياً. تعبير يأتي على حساب منطق الدولة وحق حصرية السلاح بيد القوى الشرعية مهدت له مقولة ضعف الجيش اللبناني والحاجة إلى وجود سلاح آخر رديف له، وهي مقولة نظّر لها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون خلال زيارته إلى مصر، حين اعتبر أن سلاح «حزب الله» ضرورة في ظل عدم جهوزية الجيش اللبناني الذي كان يوماً من الأيام قائداً له.
هذا على مستوى الوظيفة الداخلية للمعركة التي تمنحه فرصة تكريس الحاجة لسلاحه، مراهناً على ما حققه من شرعية شعبية ضمن شرائح واسعة من المسيحيين، في انتظار اكتمال الظروف لتشريعه القانوني، فيما تتجلى الوظيفة الإقليمية للمعركة، في تحسين الأوراق الإيرانية في سوريا، بحيث أن اتفاق ترامب- بوتين لا يشكل انتكاسة لطهران في المنطقة الجنوبية فحسب، بل يتعداها إلى مطلب خروجها وميليشياتها النهائي كشرط لانجاز الإتفاق الكلي الذي يقسم النفوذ بين الراعيين الأمريكي والروسي فيه كجزء من توافقات أمريكية – روسية أكبر لم تنجز بعد، الأمر الذي سيشكل، في حال حصوله، هزيمة لطهران وأذرعها ويترك ارتداداته على الداخل الإيراني وعلى بيئات الميليشيات الشيعية التابعة لها، وينسف الحلم هدف إيران الاستراتيجي بتأمين جسر تواصل بري يربط طهران ببيروت عبر العراق وسوريا لم تتبلور نهايته في ظل الاقتناع السائد بأن المنطقة برمتها لا تزال في مرحلة رجراجة ومتقلبة، ولا تزال الحروب مستعرة وسط ضبابية مشاريع التسويات وإمكانات نجاحها.
لعب «حزب الله» وراعيه الإقليمي في الوقت الضائع. وانتهت معركة جرود عرسال، في انتظار ما ستؤول إليه معركة جرود القاع ورأس بعلبك مع «تنظيم الدولة» على الحدود الشرقية – الشمالية مع سوريا، والتي يحظى فيها الجيش اللبناني على غطاء سياسي داخلي وأمريكي للقيام بها على عكس معركة جرود عرسال التي غاب عنه الغطاء فيها، لأسباب ناجمة عن قرار «حزب الله» بالمشاركة فيها ورفض أمريكي لمثل هذه الشراكة المعلنة بين الجيش وميليشيا الحزب التي من شأنها أن تمنحه الشرعية التي يبتغيها، رغم أن الجيش لعب دوراً أساسياً في التغطية المدفعية لمعركة الحزب.
لكن التحديات التي تنتظر البلاد لا تقف عند مآل المعركة مع «تنظيم الدولة» وكلفتها وانعكاسات الدعم الأمريكي لها على المشهد الحكومي، بل تذهب إلى اقتراب دخول لبنان في مرحلة صعبة وحرجة، مع العقوبات الجديدة المنتظرة للكونغرس ضد «حزب الله»، والتي تأتي في ظل استراتيجية متشددة لترامب ترتكز على ضرورة ضرب أذرعها في المنطقة، ومنها «حزب الله» الذي وصفه بالخطر على لبنان، بحيث يتوقع كثير من المراقبين السياسيين والاقتصاديين أن تطبيق هذه العقوبات سيكون صارماً على المصارف اللبنانية وعلى تعاملاتها مع بيئة «حزب الله» ومع الكيانات والأفراد الذين قد تربطهم أي علاقة بالحزب. ففي العقوبات السابقة، نجح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المواءمة بين المطالب الأمريكية والضغوطات الداخلية لعدم التشدد في تطبيق مضامين العقوبات، لكن هذه المرة لا يبدو أن الرهان ممكن على شيء مماثل، الأمر الذي سيترك تداعياته على شرائح وقطاعات واسعة من المجتمع اللبناني ولن تكون محصورة فقط بـ«حزب الله» وبيئته الحاضنة.
وما سيفاقم من تعقيدات المشهد اللبناني الأجواء السلبية الخليجية التي بدأت تصل إلى دوائر القرار اللبناني، والتي تنذر بارتفاع منسوب الضغوط لعدد من هذه الدول على لبنان، نتيجة الدور التخريبي لـ«حزب الله» في تلك الدول وإخفاق لبنان بمؤسساته في معالجة هذه الحالة الآخذة في التمادي والتي حوّلت لبنان إلى منصة إيرانية، وسط حال من الاستسلام اللبناني. فقد كانت لافتة رسالة الاحتجاج التي وجهتها الكويت إلى الخارجية اللبنانية على خلفية حكم التمييز الصادر في ما يسمى بـ«خلية العبدلي» الذي ثبت ضلوع «حزب الله» في عملية التمويل والتسليح والتدريب للقيام بأعمال تخريبية، داعية الحكومة بوصف الحزب أحد مكوناتها إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بردع هذه الممارسات. موقف يرى مراقبون أنه يأتي ليعبّر عن نفاد صبر هذه الدول وضيق صدرها ووصول العلاقة معها إلى دائرة الخطر، لكنه يؤشر أيضاً على تبدّل العقل الخليجي في مقاربته للأمور، إذ ليس من المستبعد أن يشهد لبنان إجراءات عقابية، ما دامت الحرب الدائرة تتعلق بالأمن القومي لهذه الدول والأمن الخليجي والعربي، وتتعلق بوضع حد للتدخل الإيراني وأذرعها في شؤون دول المنطقة، كأحد الأهداف الاستراتيجية التي خرجت بها القمة العربية- الإسلامية- الأمريكية التي انعقدت في الرياص قبل بضعة أشهر.
ثمة من يعتقد أن القرار بإنهاء «حزب الله» كقوة عسكرية تضخّم حجمها وأصبحت خطراً قد إتخذ، وأن العد العكسي قد بدأ سواء طال الزمن أو قَصُر، لكن الخوف من أن يكون العد العكسي لإنهيار لبنان هو الذي بدأ فعلاً. ومعركة عرسال خطوة على الطريق.
عذراً التعليقات مغلقة