شكلت سوريا بالنسبة لروسيا نقطة انطلاق جديدة نحو العالم الخارجي لجهة السيطرة العسكرية واستخدام الكتل النارية والدور المعترض في الأمم المتحدة على أي تسوية، وبات البعض يعتقد بأن روسيا أصبحت دولة عالمية تفرض شروطها على العالم وتحديدا على الولايات المتحدة الأميركية.
وفي خطوة سريعة من مجلس “الدوما” الروسي شرع الطلب المقدم من الرئيس الروسي المتعلق بتمديد العمل في القاعدة الروسية في منطقة “حميميم” لمدة نصف قرن، وقاعدة حميميم العسكرية سيطرت عليها القوات الجوية الروسية في العام 2015 عند تدخل روسيا في سوريا لتوسيع نفوذها، وقلب ميزان القوى لصالح النظام السوري وإيران.
إلى جانب هذه القاعدة، يوجد تواجد حربي سوري صغير في “مطار باسل الأسد” حيث يتشارك مع القاعدة في بعض مسارات الهبوط للطائرات.
وعلى الرغم من أن الطوافات السورية متواجدة في القاعدة إلاّ أنها تحت إمرة الجيش الروسي، كما أن القاعدة محصورة فقط بالعمال الروس، وقائدها جنرال روسي لا سوري، وترتبط القاعدة بواسطة غرفة عمليات عسكرية مع موسكو يشرف عليها نائب قائد الأركان الروسي.
الوجود العسكري في سوريا
اللافت أن هناك استحداثا لصواريخ أرض جو-روسية لا يستخدمها الجيش السوري للدفاع عن المطار وكل المناطق المحيطة به، بل هي بيد الجيش الروسي فقط، وتستطيع إسقاط طائرة عن بعد 200 كلم. وهذا ما عزز خوف “إسرائيل” التي طلبت أن تبقى الصواريخ الروسية بيد الجيش الروسي منذ انطلاق الحملة العسكرية الروسية في آخر سبتمبر 2015.
والجدير ذكره أن القرار الروسي صدر عبر وثائق رسمية منذ فترة تظهر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد طلب من مجلس الدوما الروسي المصادقة على اتفاق مع الحكومة السورية بشأن شرعية الوجود العسكري في سوريا، ويسمح هذا القانون لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتها الجوية في حميميم في سوريا لمدة نصف قرن.
الاتفاق الأصلي الذي قد وقع في دمشق في يناير2017 حدد شروط استخدام روسيا للقاعدة الجوية التي استخدمتها في شن ضربات جوية على قوات معارضة للرئيس بشار الأسد.
ويكشف مضمونه عن انتشار القوات الروسية في قاعدة حميميم لمدة 49 عاما مع خيار تمديد هذا الترتيب لمدة 25 عاما أخرى.
وللوقوف أمام أهمية هذا القرار الروسي الرسمي في هذه اللحظات التي تحاول الولايات المتحدة الضغط على روسيا من خلال تشديد عقوبات اقتصادية جديدة عليها، فإن توقيعه يعود إلى محاولة روسية لتحديد نفوذها العسكري والسياسي في سوريا من أجل التفاوض على المستقبل وتحديد مناطق النفوذ، وفي ظل الخطة التي تعمد روسيا إلى تنفيذها بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية والتي تسمى مناطق خفض التوتر العسكري من خلال الاستعانة بأصدقاء.
فهذا القرار هو إعلان روسي صريح بتحديد مناطق نفوذها والتي تقع في الساحل السوري وحماية الأقلية التي تحميها.
ولكن الأهم في الاتفاقية هو الإشارة إلى أن موسكو لا تعارض تواجدا عسكريا أميركيا في سوريا بعد الانتشار المتسارع للقوات الأميركية في سوريا، وخاصة بعد تأهيل قاعدة رميلان الأميركية في سوريا التي تعتبر من أهم القواعد الجديدة في الشرق الأوسط والقابعة في شمال سوريا في محافظة الحسكة بمناطق الأكراد حلفاء الولايات المتحدة.
لهذا تحاول روسيا دفع البنتاغون إلى تشريع القاعدة بالاتفاق مع النظام السوري من أجل تشريع القاعدة دوليا وتعويم النظام السوري باعتماد معادلة تقوم على أن قاعدة “رميلان” الأميركية تقابلها قاعدة “حميميم” الروسيـة من قواعد الكبار على أرض الصغار.
ذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية سابقا أن قاعدة “حميميم” بالإضافة إلى مطار باسل الأسد هي أشبه بمقاطعة عسكرية تحت شعار التدخل الروسي الجدي في سوريا. لكن المتابعون يشيرون إلى تدخل مقابل للولايات المتحدة الأميركية شمال سوريا وتحديدا التنسيق مع الأكراد في قاعدة رميلان.
كل من الطرفين يبحث عن “موقع معزز” لقوته في هذه الأرض. وتضيف “فورن بوليسي”، “كان همّ الولايات المتحدة الأميركية إعلان حرب بالوكالة ضد موسكو عبر تسليح المعارضة السورية، لكن ترامب عاد أدراجه ليقول إن هذا القرار من دون جدوى بعد لقائه الشهير مع بوتين في هامبورغ ومحاولة اقتسام الكعكة السورية”.
التخلص من النفوذ الإيراني
لا يزال على روسيا تنفيذ الشرط الأساسي في أي معادلة للاتفاق مع البيت الأبيض والإقرار بشرعية الوجود الروسي في سوريا وهو إبعاد النفوذ الإيراني وكبحه بأي طريقة كانت.
وهذه المرحلة الجديدة في الحرب السورية وتقسيم النفوذ الجيو-سياسي ماهي “إلاّ جولة روسية لانتزاع اعتراف أميركي بشرعية وجودها العسكري من خلال التفاوض، أولا، والتنسيق بشأن هذه القواعد الروسية العسكرية، بتشريعها، ثانيا، وثالثا الذهاب بالتفاوض مع واشنطن نحو ملفات أخرى وتحديدا في الملف الأوكراني، وتكون الحلول مشابهة للحلول التي أنتجتها الدبلوماسية الروسية والأميركية.
وترى روسيا أن المسألة السورية باتت تطلب توزيع أدوار جديدة وتقاسم النفوذ عكس ما كان قائما في اتفاقية سيكاس بيكو التي فرضت لاعبين جددا في رسم خارطة جديدة بديلا عن تقاسم النفوذ السابق بعد العجز عن الحسم العسكري، حيث لا تريد موسكو الدخول في مستنقع الحسم العسكري مفضلة الحل السياسي، على عكس إيران والنظام السوري اللذين يودان الحسم العسكري حماية لمصالحهما.
وخرج الخلاف الإيراني الروسي للعلن بخصوص الملف السوري في إدارة الصراع وحسمه مستقبلا، لذلك تحاول روسيا استغلال ذلك قبل تغير الميزان العسكري لصالح الولايات المتحدة المتواجدة في سوريا من خلال قاعدة “رميلان”.
وعما إذا كان قرار بوتين باستبقاء قواته الروسية في القاعدة السورية ردا على العقوبات الأميركية الجديدة، فإن هذا الإقرار ليست له صلة مباشرة بالقرار وليس ردا على العقوبات لأن روسيا ردت على العقوبات بتقليص النفوذ الأميركي الدبلوماسي في روسيا، لكن الأمر متعلق بانتزاع اعتراف أميركي بالوجود الروسي ودفع واشنطن إلى السير بنفس الخطة لتحقيق شرعية لقاعدتها. لقد تفاجآت روسيا بالعقوبات الجديدة التي وضعها الكونغرس الأميركي ولذلك ترى أن الحل مع الجانب الأميركي بعيد جدا ولن يكون سهلا.
وكانت روسيا تأمل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوصل إلى حلول سياسية يشرّع معها وجودها على الساحة الدولية، علما أن لقاء بوتين-ترامب في هامبورغ كان نقطة تحول جديدة في سير العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، ومن نتائجه تشكيل اتفاق بالجنوب الشرقي لسوريا والذي “كان اختبارا حقيقيا لمدى مصداقية روسيا في إبعاد الشبح الإيراني عن المشهد السياسي”.
وبهذا الصدد كان لافتا تصريح الوزير الروسي سرجي لافروف للإعلام الروسي منذ عدة أيام، والذي حمل أبعادا كثيرة ورسائل واضحة منها أولا أن “الحل في سوريا لا يكتمل إلا إذا أبعد رأس النظام” معتبرا أن لروسيا مهمة مبدئية لقيام اتفاق أحادي مع الولايات المتحدة الأميركية من خلال تشريع دورها في سوريا قبل أي تغيير سياسي داخلي، وثانيا تأمين خروج سالم لها دون أي خسائر، وثالثا تعويم دورها السياسي في الخارج كلاعب دولي قوي يمكن أن يعيد عملية توازن الأقطاب الدولية المفقودة في حل الأزمات.
هذه الشروط تلائم موسكو من خلال إعادة الثقة بين صقور الكرملين والقابعين في البيت الأبيض من دون الحاجة إلى العودة إلى الأمم المتحدة وهي بمثابة صفقة بينهما. فإن الاتفاق بين الجانبين الروسي والأميركي في سوريا محكوم بمصداقية روسيا أولا ومدى تنفيذها للشروط بإبعاد شبح إيران عن الواجهة، وبالتالي النفوذ الروسي تحدده الولايات المتحدة وليست قاعدة حميميم.
- خالد العزي – العرب اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة