* ماجد كيالي
قبل أيام انتهت الجولة السابعة من مفاوضات جنيف، مع إعلان ستيفان ديميستورا المبعوث الدولي إلى سورية موعد انعقاد الجولة الثامنة في أيلول (سبتمبر) المقبل، وتأكيده أنه سيعقد جولات أخرى لاحقاً، وقبلها كانت انتهت الجولة الخامسة من مفاوضات آستانة، من دون التوصل إلى أي اتفاق، ومع ذلك تم الإعلان عن التحضير لجولة سادسة. لكن، وعلى رغم كل ذلك، وكل التصريحات والمؤتمرات التي تعقد، والأوراق التي تقدم، هل ماجرى هو مفاوضات فعلاً؟ أو ما الذي يجري حقاً؟
بداية أود أن أؤكد أن المعارضة السورية، بغض النظر عن تقييمنا وضعها أو أداءها، لا تستطيع رفض المشاركة في العملية التفاوضية، فهي لا تستطيع مجابهة المجتمع الدولي الذي فرض هذا المسار، لأنها بذلك تكون كمن يقدم هدية مجانية للنظام، وتظهر كمن يفوّت عليه فرصة الصراع على المكانة والشرعية، والرأي العام، وضمن ذلك فرصة تعزيز خبراتها السياسية.
بيد أن كل ذلك لا يعني تغييب الفرق الكبير بين انخراط المعارضة في العملية التفاوضية من واقع معرفتها محدودية إمكانياتها ودورها، ومن واقع وعيها انسداد أفق هذه المفاوضات، بحكم طبيعة النظام وطبيعة الظرفين الدولي والإقليمي غير المواتيين، وبين الانخراط فيها مع توهّم أنها يمكن أن تنتزع على الطاولة، ومن خلال الاجتماعات، ما لم تستطع انتزاعه من النظام في الصراع على الأرض.
منذ بيان جنيف 1 (2012)، الذي رفضته المعارضة («المجلس الوطني» وقتها)، والذي جمد قسم منها وجوده في كيانها الرئيس («الائتلاف») بسبب قبوله الانخراط في مفاوضات جنيف 2 (مطلع 2014)، مضت ثلاثة أعوام ونصف عام، من الجولة الثانية إلى السابعة، من دون تحقيق أي تقدم يذكر، على الأرض. بل يمكن التذكير هنا بناحيتين أساسيتين، أولاهما، أن وجهة نظر النظام هي التي تترسخ، وهو ما يظهر بتقديم هدف محاربة الإرهاب، والتشكيك بوحدانية مركز المعارضة، والترويج لضعف أهليتها وتمثيلها، الأمر الذي استمر من الجولة الثانية إلى الجولة السابعة، لمن يريد أن يلاحظ. وثانيتهما، أن أي تحول في الصراع السوري، من جهة التوافقات السياسية، إنما هو جرى من خارج العملية التفاوضية، ومن فوق إرادة السوريين (نظاماً ومعارضة)، هذا ما شهدناه في الدخول الروسي على خط الصراع المباشر (أيلول 2015)، وفي تكتيل الجهود الدولية في سورية للحرب على الإرهاب («داعش» و «جبهة النصرة»)، وتعزيز مكانة «قوات سورية الديموقراطية» في الشمال والشرق السوريين، ولا سيما في اتفاق «المناطق المنخفضة التصعيد»، بين روسيا وإيران وتركيا، وأخيراً في الاتفاق على منطقة آمنة في الجنوب بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يحجم نفوذ إيران في هذه المنطقة، وضمن ذلك منع التواصل بين قواتها والميلشيات التابعة لها من طهران إلى لبنان، عبر الحدود العراقية ـ السورية.
المشكلة أن «الائتلاف»، بوصفه الأكثر تمثيلاً للمعارضة السورية، والكيان المعترف به، لم يعمل شيئاً يذكر، أو يتناسب، مع كل هذه التطورات والتحولات، فهو لم يستطع أن يعزز مكانته ككيان سياسي لكل السوريين، أو لمعظمهم، بحكم بنيته المنغلقة، التي تتحكم فيها جماعات صغيرة بارتهانات خارجية، وبحكم الخطابات الفئوية الضيقة الصادرة عنه، التي لا تتمثل مصالح كل السوريين وتطلعاتهم، والتي خرجت عن المقاصد الأساسية للثورة السورية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية.
على سبيل المثال فقد شهدنا أن هذه المعارضة (المتمثلة في الائتلاف) لا تفعل شيئاً، مثلاً، بخصوص تلافي هذه الثغرات القاتلة، ولا تقطع تماماً مع الجماعات الإرهابية (النصرة أو هيئة تحرير الشام لاحقاً وأخواتها) على رغم أن هذه لا تعترف بالثورة السورية، وتشتغل ضدها، وتضر بشعبها، باستثناء بيان هنا وتصريح فردي هناك، للاستهلاك ووفقاً للظروف. هذا يشمل أن هذه المعارضة لم تبذل الجهود الكافية لتقديم رؤية وطنية وديموقراطية لحل المسألة الكردية، لقطع الطريق على النظام الذي يستثمر الخلاف بين المعارضة والقوة الرئيسة عند الكرد السوريين، مع الاختلاف مع بعض طروحاتها وممارساتها، بل إنها، بسبب ارتهاناتها الخارجية، اشتغلت على العكس، أي على تعظيم هذا الخلاف، في الوقت نفسه الذي سكتت فيه على جماعات المعارضة العسكرية (الإسلاموية)، التي ترفع أعلاماً خاصة بها بدل علم الثورة، والتي تجاهر برفضها للديموقراطية، وتنكل بالنشطاء السوريين، وحتى أنها لا تسمح بفتح مكتب للمعارضة، ولا بتوزيع جريدة، في المناطق التي تسيطر عليها.
وقد شهدنا، إضافة إلى ما تقدم، أن بعض المعارضة، او شخصيات مهمة فيها، أصدرت بياناً تدين فيه اتفاق التهدئة، أو «المنطقة الآمنة» في الجنوب، والتي تجنب ثلاث محافظات هي القنيطرة ودرعا والسويداء، مصير حلب المأساوي (العام الماضي)، وكأنها لا تدرك موازين القوى، ولا الظروف الإقليمية والدولية غير المواتية المحيطة بالصراع السوري، أو كأنها تتوهم أن لديها جيشا جراراً يمكن أن يجنب هذه المحافظات كارثة حلب، في حين أنها لا تستطيع حماية أي منطقة من القتل والحصار والتشريد. الأهم من كل ذلك أن هذا البيان صدر عن عقلية تتجاهل أهمية التعويض عن الخلل في موازين القوى، أو أهمية الحفاظ على الذات، بالاستناد إلى تضارب المواقف الدولية؛ ومثاله التوافق الروسي – الأميركي، الذي يحجم النفوذ الإيراني، فضلاً عن أن موقعي البيان لم يقولوا شيئاً يذكر عن مفاوضات آستانة، وتوافقاتها، ولا عن طريقة تشكيل وفدها، ولا عن التوافقات التي تمت فيها، ولا عن دورها في استبدال مسار جنيف بمسار آخر، مع تأكيدنا أن وجود المعارضة السورية العسكرية في آستانة هو مجرد وجود شكلي، إذ المفاوضات تجري بين الدول الثلاث المعنية، فقط.
ثمة كثير من التظلم لدى المعارضة السورية (الائتلاف ـ المجلس الوطني ـ الهيئة العليا للتفاوض) بكياناتها السياسية والعسكرية، نتيجة تجاهل القوى الدولية والإقليمية لها، وهذا صحيح ومرفوض، لكن ادعاء التظلم، وادعاء الحق، لا يكفيان إذ إن هذه المعارضة ينبغي قبل ذلك أن تتفحص مكانتها لدى مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، وأن تشتغل لفتح اطاراتها لأوسع تمثيل للسوريين، بكل مكوناتهم وخلفياتهم وبغض النظر عن الاختلافات، كما عليها أن تتمثل مصالح كل السوريين أيضاً، ومن وجهة نظر المستقبل وليس الماضي.
للأسف، ثمة كثير من الأمور المتشابهة في المفاوضات السورية – السورية التي تذكر بالمفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية، فالمفاوضون الفلسطينيون، أيضاً، لم يدركوا حدود إمكانياتهم، ولا أدركوا استحالة التسوية مع إسرائيل في هذه الظروف. والمشكلة، أيضاً، أنهم لم يشتغلوا شيئاً، طوال ربع قرن من اتفاق أوسلو (1993)، سوى في المفاوضات، أي لم يشتغلوا على إعادة بناء كياناتهم، ولا على صوغ علاقاتهم البينية على أسس وطنية وكفاحية، ولا على صوغ خطابات سياسية جديدة، ولا على اجتراح أشكال نضالية أكثر ملاءمة لشعبهم ولإمكانياته ولقدرته على التحمل، ولا على جسر الفجوة بينهم وبين شعبهم في كل أماكن تواجده؛ وهذا ما جرى بالنسبة إلى المعارضة السورية، ايضاً، كأن لا أحد يتعلم إلا من كيسه ومن تجربته وبثمن باهظ يدفع ثمنه الشعب، السوري هنا والفلسطيني هناك.
فوق ذلك، تبدو المفاوضات بين السوريين مثل مفاوضات الفلسطينيين مع إسرائيل (مع الاحترام للمشاعر «القومية»)، إذ ان المفاوضات هناك، أيضاً، بلا أفق سياسي، وبلا مرجعيات، وبلا جدول زمني. فوق ذلك فهناك، أيضاً، قرر المجتمع الدولي، أو الدول الكبرى المعنية، ترك المفاوضات لما يتوصل إليه المتفاوضون، أي تركوها تحت رحمة إسرائيل، التي تتحدث حيناً عن أولوية مكافحة الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل، وحيناً أخر عن عدم أهلية الفلسطينيين للديموقراطية، أو لحكم أنفسهم بأنفسهم، ودليلها ما جرى في غزة، التي أسندت روايتها إلى انقسام الفلسطينيين.
قصارى القول، تشتغل المعارضة (في الائتلاف والهيئة العليا) كأنها دائرة منعزلة، وليس ككيان سياسي يمثل كل السوريين، ويفترض أن يعبر عن كل أصواتهم ومصالحهم وتطلعاتهم. وعلى رغم جهودها في المفاوضات، خلال السنوات الماضية، والأوراق التي قدمتها، إلا أنها تتصرف وكأنها تظن أن هذه الأوراق هي بمثابة جواز مرور، أو امتحان، من دون أن تنتبه أن الأمر يتعلق بموازين القوى، وبإرادات الأطراف الخارجيين المتحكمين بالصراع، بدليل أنها لا تجد حرجاً في حشد عشرات الأعضاء والمستشارين في وفدها إلى جنيف، من دون أي طائل، وهو أمر مخجل حقاً لشعب يدفع باهظاً من تضحياته ومعاناته.
يقول رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات»: «الشعب السوري سئم من تكرر اجتماعات جنيف وتزامنها مع عمليات القصف الجوي والتصعيد العسكري، وأعتقد أن الوساطة الأممية أصبحت في حاجة إلى التقدم بمعطيات جديدة تتناسب مع عمق التحولات الإقليمية والدولية، وأن تركز على تخفيف معاناة السوريين.» (الحياة»، 16/7) لكن المشكلة أن هذا الكلام الصحيح، يبقى مجرد كلام مع الأسف إذ إنه لا يترجم إلى أفعال.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة