* حازم صاغية
في ديار الله الواسعة يهيم السوريّ. لكنّه في معظم تلك الديار يقاسي ويتألّم كما لو أنّ الدنيا هي الوحشة أو الغاب أو المتاهة.
في تغريبته هذه، وفي معاناتها، قد يتراءى له أنّ العالم لم يعرف ذات مرّة التنوير وصعود النزعة الإنسانيّة. أنّ هذا العالم لا يعيش راهناً زمن التواصل والاتّصال. بل قد يتراءى له أنّ أحداً لم يحبّ أحداً في هذا الكون، وأنّ أحداً لم يُهدِ أحداً وردة أو شيئاً جميلاً.
الناس لا يتبادلون بينهم إلّا السمّ. هكذا هي الحياة.
حقّاً، هناك الكثير ممّا يُغري السوريّ بأن يكفر بالعالم.
من لبنان إلى تركيّا، تواجهه المِحن التي ترقى إلى سويّة الوجود نفسه. الجدران تُرفع في وجهه. الأسوار تُسوِّر إقامته وإقامة أهله. فوق هذا، تُلقى عليه مسؤوليّة الأزمات في تلك البلدان، علماً أنّ تلك البلدان، جلّها إن لم يكن كلّها، مرادفات للأزمة وبيوت للاستحالة…
في البرّ الأقرب والأبعد، تشحذ القوى المتعصّبة نصلها على عنقه. في البحر، ومع رفاق آخرين من بلدان منكوبة كبلده، يحاول الوصول إلى يابسة يدرك أنّها سوف تعامله باللؤم والقسوة. مع هذا، يناضل كي يبلغ تلك اليابسة اللئيمة، فقط كي لا يموت غرقاً كما مات آخرون!
السوريّ إذاً تواجهه خيارات من نوع تفضيل المهانة على الموت أو تفضيل الموت على المهانة!
شامُه وحلبه وراءه، وكذلك أريافه وحقوله المحروقة وبيوته المهدّمة، ووراءه أيضاً وجوه أحبّة قضوا أو أُعطبوا أو خُطفوا أو يئنّون في الزنازين تحت الأرض. أمّا أمامه، فوق هذه الأرض، فوجوهٌ كالحة وسياسات عديمة الرحمة وأسماء مدن وعواصم تقرّر له. تقرّر عنه. «تطمئنه» إلى أنّها سوف تكتب له تاريخاً لا يستند إلى جغرافيا، وأنّها سوف ترسم له مستقبلاً يعالج ماضيه بالنسيان.
لكنّ السوريّ وقد جُعل «الآخرَ المطلق» لكثيرين، بات مِعلماً في تحقيب الزمن، بل المِعلم الأوّل للقرن الحادي والعشرين. سيقال: عشنا المحنة السوريّة ولم نفعل شيئاً، أو لم نفعل إلّا القليل، تماماً كما قال كثيرون ممّن عاصروا المحن الكبرى للقرن العشرين. وهو يغدو معياراً للقياس، لقياس الأنظمة: أيّها أخلاقيٌّ وأيّها عديم الأخلاق. لكنْ، أيضاً لمحاكمة أخلاق الشعوب وما تقوله في مديح ذاتها. إنّ السوريّ اليوم يمتحن طاقة الشعوب على تقبّل أن يكون الجار «إنساناً حلّت عليه اللعنة»، إنساناً يُستثنى من ضمانات القانون من دون أن يُستثنى من عقوباته.
في هذه المعاني، يلوح السوريّ، المهيض الجناح، قوّة جبّارة.
وإذا صحّ أنّ فقر الأخلاق يستدعي ذريعته، صحّ أنّ الذريعة تملك اليوم اسماً: مساواته بـ «داعش» و «النصرة». هكذا يُرسَم، هو الأعزل، مسلّحاً. هكذا يصير من الجائز أن يُعامَل كإرهابيّ خطير. أن يموت كما تموت الحشرات.
تصنيع السوريّ كإرهابيّ وظيفةٌ مطلوبة بأكثر من معنى. جعله ذاك الغجريّ الخطر، لا الغجريّ المألوف والمزعج، أمر يخدم أغراضاً عدّة. إنّه، في زمن الثورات المضادّة والقمع الذي ينقضّ في بلدان ويتأهّب للانقضاض في بلدان أخرى، يُجعل رائزاً وتمريناً. قسوة الأنظمة يمتحنونها عليه وبه يختبرون أشكال المقاومة كي يطبّقوا على شعوبهم ما اختبروه. والسوريّ، عند حكّام يومنا، وعند حاكمه خصوصاً، عبرة ينبغي أن يُعتبر بها: يريد الحرّيّة؟ فليتعلّم، إذاً، وليتعلّم الآخرون، أنّ البقاء على قيد الحياة هو وحده الهدف الممكن والمعقول. السوريّ لا يتعلّم. نحن أيضاً لا نتعلّم.
ولأنّنا كذلك، فإنّ معاييرنا تناهض معاييرهم. وستبقى تناهضها. وأوّل تلك المعايير أنّنا معه، مع السوريّ، ضدّ أشياء كثيرة جدّاً وبشعة جدّاً جدّاً.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة