* عبد الباسط سيدا
تشمل التوافقات الدائرة في شأن سورية اليوم ذاك التوفق الأساسي الحاصل بين الجانبين الروسي والأميركي. وهو الذي يمثل الإطار العام لجملة التوافقات الفرعية مع القوى الإقليمية. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى ما تم في الآستانة بين روسيا وتركيا وإيران، وإلى التواصل المستمر بين الدول الخليجية والأميركيين والروس والأوروبيين، وإلى الرسائل الديبلوماسية والميدانية المتبادلة بين الأميركيين والإيرانيين.
كل ذلك يشي ببلوغ عملية تقاسم النفوذ في سورية مرحلة متقدمة، ولكن من دون الوصول إلى مرحلة الإعلان عن التقسيم الفعلي الذي ستكون تبعاته معقدة ومكلفة بالنسبة إلى الجميع، وستكون سلبياته أكثر بكثير من ايجابياته المحتملة في حسابات كل طرف.
ولعل هذا ما يفسر جانباً من التصريح الأخير للرئيس الفرنسي ماكرون حول دور بشار الأسد، وهو تصريح يتناغم مع الموقف الروسي، ويستمد نسغه من حالة الغموض التي تحيط بالموقف الأميركي. ويلقي الضوء في الوقت ذاته على الإعلان التركي عن تقاسم الأدوار بين القوات الدولية في ما يسمى مناطق «خفض التوتر»، فطالما أن التقسيم الرسمي غير وارد في المدى المنظور، وبما أن الرغبة لدى مختلف الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة على الساحة السورية تتقاطع حول الحصول على منطقة نفوذ، أو ممر حيوي، فهذا مؤداه الإبقاء على بشار الأسد يافطة لوحدة سورية جغرافياً، انتظاراً لما قد تكون عليه الأمور مستقبلاً، وأمر من هذا القبيل ربما كان بمثابة القاسم المشترك المطمئن للجميع.
فبشّار، وبعد كل الذي حصل، سيكون مجرد واجهة هزيلة، تستخدم للتغطية على اللاعبين الأساسيين الذين سيحصل كل منهم على ما يريد بهذه الدرجة أو تلك من الرضا، وذلك ضمن إطار المتاح، وفي غياب عربي مثير للجدل والتساؤل.
وحدها إيران ستكون المزعجة والمنزعجة في الوقت ذاته. فهي تريد الدور الإقليمي الأكبر على حساب الدور العربي، السعودي تحديداً. وستحاول بشتى السبل الاحتفاظ بالأوراق والميادين التي تضمن لها قابلية هذا الدور.
ولكن هذا الدور لا يستقيم مع الإستراتيجية الأميركية الجديدة المتمحورة حول إعادة صياغة معادلات التوازن في المنطقة، وهي إستراتيجية متقاطعة في بعض جوانبها مع توجهات الشركاء الأوروبيين.
فإيران ستظل قوة إقليمية أساسية، ولكنها لن تكون المهيمنة. فكما أن روسيا تتحدث اليوم عن انتهاء مرحلة الأحادية القطبية على المستوى الدولي، فإن الأحادية ذاتها على المستوى الإقليمي لن تكون في مصلحة الفاعلين الإقليميين الآخرين.
وجود إيران قوةً إقليمية مهدِّدة، يُحسب حسابها، ضروري بالنسبة إلى القوى الدولية في سبيل الحفاظ على التوازن في المنطقة، والمصادرة على الاحتمالات غير المرغوب فيها مستقبلاً، هذا فضلاً عن الحسابات الاقتصادية ومنها مبيعات الأسلحة وتوابعها، والنفط والغاز.
وفي سياق تناولنا لدور العامل الإيراني في المنطقة، لا يمكننا تجاهل دور «حزب الله» المستقبلي في لبنان، وربما في مناطق محددة في سورية أيضاً، منها مثلاً الريف الدمشقي المحاذي للحدود البنانية- السورية، وكذلك الريف الحمصي.
فـ «حزب الله» خسر الكثير من أعضائه وسمعته نتيجة القتال في سورية إلى جانب النظام وضمن إطار الإستراتيجية الإيرانية، لكنه في المقابل امتلك المزيد من الخبرات القتالية والمعدات العسكرية، كما انه اكتسب المزيد من هيبة القوة، إذا صح التعبير، ضمن الساحة الداخلية اللبنانية نتيجة قوته الذاتية من ناحية، وضعف خصومه وخلافاتهم البينية من ناحية ثانية.
والسؤال هنا هو: هل سيستمر الوضع هكذا بالنسبة إلى حزب الله في أجواء المعادلات الإقليمية الجديدة، أم أن فائض القوة الموجود لديه سيعالج بطريقة ما؟ كيف؟ وأين؟ ومتى؟ وإلى أي حد؟ أسئلة يرجح وجودها على جداول أعمال الاجتماعات المحمومة المتواصلة التي تعقد بين مختلف الأطراف في أكثر من مكان.
والأمر ذاته بالنسبة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تشكل قواته النواة الصلبة ضمن قوات سورية الديموقراطية. وهي القوات التي اكتسبت خبرة قتالية، وامتلكت معدات عسكرية متطورة، وسيطرت على أراض واسعة في الشمال الشرقي، وشرق سورية، وكل ذلك بفضل الدعم الشامل، بخاصة الجوي من جانب قوات التحالف بقيادة الولايات المتخدة الأميركية.
هل سيستمر هذا التفاهم والتعاون مستقبلاً أم أن دوامه مرتبط بفاعلية الأسباب؟ ولكن ماذا بعد زوالها؟ وأي دور سيُناط بالحزب المذكور في المستقبل الإداري في المناطق الكردية على وجه التخصيص وفي غيرها من المناطق؟
هذا مع فارق لافت بالنسبة إلى وضعية هذه الحزب وحزب الله. فالأخير حزب لبناني، مهيمن على الساحة الشيعية في لبنان، وليس في مقدوره التمترس خلف أي دور سياسي في سورية مستقبلاً. بينما يقدم حزب الاتحاد الديموقراطي نفسه بوصفه حزباً سورياً، وله أنصاره بين الكرد السوريين، ولو إلى جانب أحزاب كردية سورية أخرى منافسة، تمتلك حاضنة شعبية واسعة لم يتمكن حزب الاتحاد الديموقراطي، على رغم كل أساليبه القمعية والترغيبية، من إقناعها بشرعية وجوده على المستوى الكردي السوري.
الأمور متداخلة كثيراً. ولكن يبدو أن عقدة الحكاية السورية بلغت دولياً وإقليمياً الذروة، وحان الوقت لإنهاء أسطورة داعش، تمهيداً لتقاسم الأدوار والنفوذ في الميدان السوري، الذي كان، وسيظل، هدفاً للهيمنة من قبل مختلف القوى المتصارعة التي تدرك أهمية ثقل الجغرافيا السورية وأهميتها في عملية إعادة ضبط الموازين في المنطقة.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة