كانت السنوات الأربع الماضية كفيلة بتغيير خريطة التحالف، الذي أطاح بالرئيس المصري محمد مرسي في 3 يوليو/تموز 2013 بدعوى الاستجابة لتظاهرات الجماهير الغاضبة في 30 يونيو/حزيران من ذلك العام. فعندما خرج وزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي على شاشة التلفزيون الرسمي لإلقاء بيان عزل مرسي، كان قد رسم مشهداً دعائياً يوحي بتلاحم سلطات الدولة ومؤسساتها الرئيسية المختلفة ضد نظام جماعة الإخوان المسلمين. كما استعان في الأيام التالية لبيانه بشخصيات وتيارات سياسية مختلفة في مواقع المسؤولية بالحكومة ولجنة إعداد الدستور، غير أنه تخفف تدريجياً من التزاماته السياسية واتفاقاته مع تلك الجهات والتيارات، ليتسنى له التحكم الكامل وحده بالمشهد السياسي والاقتصادي.
واللافت أن علاقة السيسي بالسلطات والمؤسسات الرسمية التي شاركت في بيان 3 يوليو/ تموز لم تبق على حالها من الود والتنسيق، إلاّ جهة واحدة فقط هي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي حسم رأسها البابا تواضروس الثاني جميع مواقفه لصالح التبعية المطلقة للنظام، رغم ما تكبده الأقباط المصريون من نزيف دماء متواصل تارةً بسبب فشل النظام في المواجهة السياسية والأمنية للإرهاب، مما تسبب في اتساع رقعة عملياته التخريبية، وتارةً أخرى بسبب ضعف خطط الحماية الأمنية.
أما باقي المؤسسات فإما دخل السيسي معها في صدام لتقليم أظافرها والعبث بقواعدها، وإما حاول محاصرتها حتى لا تتمكن من القيام بدورها المرسوم لها دستورياً وقانونياً أو المتوارث تاريخياً، ليحتكر هو ودائرته، التي شكلها من جهازي الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية، رسم قواعد النظام العام بدون مشاركة مؤسسية أو ديمقراطية.
ويعتبر القضاء على رأس السلطات التي شاركت السيسي انقلابه ثم عمل على إضعافها، إذ بارك رئيس مجلس القضاء الأعلى آنذاك، المستشار حامد عبدالله، بيان السيسي وألقى كلمة مؤيدة، كما قبل رئيس المحكمة الدستورية العليا آنذاك، المستشار عدلي منصور، مهمة الرئيس المؤقت للبلاد، وأضفى قضاة مجلس الدولة بأحكامهم المتعاقبة خلال النصف الثاني من 2013 شرعية على تلك الأحداث بوصفها بـ”الثورة الشعبية” وأيدوا فرض حالة الطوارئ بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
كان القضاة يتصورون أنهم سيحصلون على ما يفوق وضعهم المميز مالياً وسياسياً واجتماعياً في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، خصوصاً بعدما شاركوا بنصيب الأسد في إعداد دستور 2014 وسيطروا على بعض الوزارات وانتدبوا بكثافة للعمل بمجلس الوزراء ومجلس النواب، إلاّ أن السيسي كانت له مخططات أخرى للسيطرة على القضاء وتحويله إلى مرفق تابع للسلطة التنفيذية عملياً.
كانت البداية بتحجيم القضاة مالياً بضمهم إلى الفئات الخاضعة لقانون الحد الأقصى للأجور، الذي سارع السيسي لإصداره بعد توليه رئاسة الجمهورية منتصف 2014، ولما حاول القضاة التملص منه عبر إصدارهم أحكاماً قضائية وفتاوى بذلك، عاجلهم السيسي بقرارات حكومية لخفض نسب الاستعانة بهم كمستشارين للوزارات المختلفة، ثم كانت المواجهة الكبرى هذا العام بإصداره القانون 13 لسنة 2017 الذي سمح له لأول مرة بالتحكم في رئاسة الهيئات القضائية واختيارها بتقدير شخصي منه بعيداً عن مبدأ الأقدمية المطلقة المتبع في القضاء المصري منذ إنشائه.
ولم يشفع للقضاء المصري في مواجهته مع السيسي مشاركته الكبيرة في تحجيم التيارات الإسلامية، عبر قرارات النيابة العامة وأحكام الإدانة المغلظة في قضايا التظاهر والتجمهر، وإضفاء وصف الإرهاب على مجموعة ضخمة من المعارضين من مختلف التيارات، بل كانت النتيجة أن اعتمد السيسي سياسة المكافأة والتقريب لمجموعة محدودة من القضاة بتوليهم مناصب تنفيذية في وزارة العدل أو جهات حكومية أخرى، في الوقت الذي أغلق فيه باب زيادة الاعتمادات المالية للهيئات القضائية مع نهاية السنة المالية المنصرمة.
ويعتبر وزير العدل السابق، أحمد الزند، نموذجاً للقاضي الذي استعان به السيسي في مرحلة معينة ثم تخلص منه بقسوة عندما حاول فرض أجندته على دائرة السيسي.
الزند، الذي كان يعتبر نفسه “مفجر ثورة 30 يونيو” وكان أكبر مؤيد لتولي السيسي رئاسة الجمهورية والمتحكم في تعيين عدد من الوزراء والمسؤولين قبل توليه وزارة العدل، لم يلبث أن تخلص منه السيسي عندما شعر بتحوله إلى عبء سيخفض شعبيته، لا سيما بعد تصريحاته التلفزيونية التي اعتبرت إهانة لشخص النبي محمد. وبعد إقالته من وزارة العدل، حاصرت دائرة السيسي ذراعها المبتورة ومنعته من مجرد الإعلان عن آرائه في الأمور العامة أو المرتبطة بالقضاء.
وبعد القضاء، يأتي الأزهر، فشيخه أحمد الطيب كان حاضراً بقوة في مشهد عزل مرسي بكلمة مؤيدة لقرار السيسي، ومرت الشهور الأولى بين الرجلين على أحسن ما يرام، حتى رفض الطيب تأييد فض اعتصامي رابعة والنهضة علناً وخرج بدلاً من ذلك ببيان “يأسف ويبرأ من إزهاق الأرواح” ثم بدأ الصدام بعدما رفض الطيب تكفير تنظيم داعش وأتباعه في مصر، مروراً باعتراضه على مشروع السيسي لاشتراط توثيق الطلاق لإيقاعه، انتهاءً بمحاولات تعديل قانون الأزهر لتحويله من مؤسسة إسلامية إلى هيئة اجتماعية تعليمية يشارك فيها ممثلون لمجالس قومية وسلطات مختلفة، وهو ما دفع دوائر مختلفة إلى الدفاع عن الأزهر ودرجة استقلاله التي تحققت بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011.
وعلى الرغم من تعطل مشروع السيطرة على الأزهر الذي أشرفت عليه جهات سيادية وأمنية قريبة من السيسي وعبّر عنها نواب مقربون منها، إلاّ أن المقربين من الطيب يؤكدون أن هذا المخطط أرجئ فقط ولم يلغ نهائياً، بسبب انشغال السلطة أخيراً بأزمتها مع القضاء، وأن الهدف النهائي هو إضعاف سيطرة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وهيئة كبار العلماء على الخطاب الديني الرسمي.
أما الإعلام، الذي استعان به السيسي بنجاح في تسويق عزل مرسي منذ النصف الأول من 2013، ثم في حشد المواطنين لتفويضه في 26 يوليو/ تموز 2013 وفي دفعه مرشحاً للرئاسة في 2014، فهو يعاني من حصار السيسي على مدار 3 سنوات على الأقل، إذ تم التضييق على القنوات الفضائية والصحف في تناولها للموضوعات المختلفة، وسجلت العديد من حالات منع الطباعة أو تأجيلها للتعديل تحت رقابة دائرة السيسي. وتم إبعاد عدد من الإعلاميين عن مواقعهم المتقدمة كعمرو الليثي (بعد استضافته سائق توك توك انتقد الوضع الاجتماعي والاقتصادي للشباب) ومجدي الجلاد (الذي أسس صحيفة الوطن الموالية للسيسي ثم استبعد من رئاسة تحريرها بعد انتقاده لسياساته). والأخير ما زال محروماً بقرار فوقي من إصدار صحيفة ورقية جديدة للموقع الإلكتروني الذي يترأسه، “مصراوي”، على الرغم من أنه مملوك لرجل الأعمال واسع العلاقات، نجيب ساويرس.
وبغض النظر عن اتساع ظاهرة حجب المواقع الإلكترونية المعارضة، بما في ذلك مواقع سبق وكتب لها السيسي مقالات خاصة وكانت مقربة من السلطة في 2013، فإن التضييق طاول شخصيات إعلامية كان من المتوقع أن يكون لها شأن رفيع في نظام السيسي، كالكاتبين عبدالله السناوي وإبراهيم عيسى، والإعلامي توفيق عكاشة، الذين كانوا من المروجين الأساسيين لأفكار السيسي بين عامي 2013 و2015 إلى حد مشاركة الثاني في كتابة خطاباته، لكن انتقادهم لأسلوب إدارة العمل الإعلامي ثم تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير وقراراته الاقتصادية المجحفة، نتج عنه استبعادهم تماماً من دائرة المشورة، إلى حد الضغط لوقف برنامج عيسى التلفزيوني، وغلق قناة عكاشة وطرده من البرلمان.
وكما فعل السيسي في مختلف المجالات بتشكيل شريحة جديدة مقربة منه تأتمر بأمره، اصطنع لنفسه دائرة إعلامية جديدة مكونة أساساً من المجموعة المسماة “شباب الإعلاميين” والتي يقع عليها حالياً عبء تجميل صورة النظام وتبرير قراراته، وعدد من الصحافيين الموالين لأجهزة النظام ومنهم نسبة ليست قليلة من الشخصيات التي كان لها شأن في عهد مبارك، كمكرم محمد أحمد وكرم جبر اللذين توليا رئاسة الهيئتين المتحكمتين في الإعلام والصحافة والمشكلتين بموجب الدستور.
وعلى الصعيد السياسي استعان السيسي في أول شهور توليه السلطة الفعلية بعدد من الشخصيات المعروفة بمعارضتها لكل من مبارك والإخوان، وأسند لها مواقع قيادية كرئيس الوزراء الأسبق، حازم الببلاوي، ونائبيه حسام عيسى وزياد بهاء الدين، ووزير الخارجية نبيل فهمي، ووزير العمل أحمد البرعي، وهم من شكلوا ما عرف بـ”الجناح الديمقراطي في الحكومة” قبل أن يتخلص منهم السيسي واحداً بعد الآخر بعدما شهدت فترة مشاركتهم في الحكم أحداثاً دامية صعبت عودتهم في ما بعد للمشهد السياسي كفض اعتصامي رابعة والنهضة وأحداث الحرس الجمهوري واتخاذ قرار اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، انتهاءً بإصدار قانون التظاهر المكبل للحريات العامة، وحالياً لم يعد لأي منهم دور واضح في معسكر المعارضة بعدما تم “حرقهم” بلغة السياسة.
وفي مرحلة إعداد الدستور، أعطى السيسي الضوء الأخضر للاستعانة بشخصيات عرفت بمعارضتها لمبارك والإخوان وكذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أبرزهم عبدالجليل مصطفى وعمرو الشوبكي ومحمد أبوالغار وهدى الصدة. لكن السيسي اصطدم بهم بشكل مباشر عندما شعر برغبتهم في إعاقة بعض أفكاره في الدستور، خصوصاً المتعلقة بسلطات القضاء العسكري وإمكانية محاكمة المدنيين أمامه. وبعد وضع الدستور، الذي وصفه السيسي في ما بعد بدستور النوايا الحسنة، تم التضييق على جميع الأحزاب والمجموعات السياسية بما في ذلك التي شارك ممثلوها في لجنة الخمسين، إلى حد الإصرار على عدم تنفيذ حكم قضائي بإلحاق الشوبكي بمجلس النواب.
وحتى رئيس اللجنة، عمرو موسى، الذي كان يظهر كمستشار غير معلن للسيسي للشؤون الخارجية، زادت قرارات العامين الأخيرين من الفجوة بينهما واكتفى موسى بأداء دور المعارض المتحفظ بتشكيله مجموعة للدفاع عن الدستور، لكنها لا تملك إلا إصدار البيانات الإعلامية، وليس لها أي تواجد خارج النخبة.
المصير نفسه طاول شخصيات مستقلة استعان بها السيسي لفترات محدودة لتجميل النظام بين عامي 2013 و2014 على غرار عصام حجي، الذي تولى منصب المستشار العلمي لرئيس الجمهورية المؤقت، ثم أُبعد تماماً عن الصورة لإصراره على وضع خطة جديدة للتعليم والبحث العلمي. وتكرر الأمر أيضا ًمع مصطفى حجازي، الذي كان مقرباً من السيسي شخصياً وقيادات الجيش، وتولى منصب المستشار الاستراتيجي للرئاسة، واستعان به السيسي لتبرير فض اعتصام رابعة أمام وسائل الإعلام العالمية، وبعدما حظي بإعجاب في أوساط الموالين للنظام تم تهميشه لمنعه من أداء أي دور سياسي مستقبلاً.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة