* حمزة المصطفى
برز تأثير النفط في الاقتصاد العالمي بشكل فاعل في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، مع الزيادة المضطردة في أعمال التنقيب، وارتفاع مستويات الإنتاج، ما أتاح للبلدان المنتجة زيادة دخلها القومي إلى مستوياتٍ قياسيّةٍ مقارنةً بمرحلة ما قبل النفط. وبعد حصولها على استقلالها السياسي، بدأت دول العالم الثالث إدارة مواردها بنفسها، ووضعت الخطط لتحقيق تنميتها الاقتصاديّة والبشريّة، وكانت الدول الغنية بالثروات الطبيعية، وخصوصاً النفط، أبرز المستفيدين، إذ تحولت، خلال العقود الماضية، إلى وجهةٍ جاذبةٍ للاستثمارات الأجنبية، ورأس المال، والعمالة الخارجيّة. ونجحت في تحقيق نمو اقتصادي كبير، ومراكمة ثروتها وزيادة تأثيرها ونفوذها في محيطها الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من هذه “النعمة”، ذات العائد الوفير، مقارنة بتكلفة إنتاجها السهلة، فإن باحثين عديدين عدّوها “نقمة”، أكان ذلك على المستويين، الاقتصادي والسياسي. ضمن هذا السياق، وبعد الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، ظهرت أطروحة “لعنة الموارد -resource curse” أطروحةً سياسيّة تفترض، للوهلة الأولى، وجود علاقة عكسية بين الديمقراطية والوفرة النفطيّة، وترى أن وفرة الموارد الطبيعة قد لا تكون “نعمة”، بقدر ما تكون نقمة على أصحابها.
تطور مفهوم “لعنة الموارد”
مع أن مصطلح “لعنة الموارد” كان ملازمًا لمصطلح الدولة الريعية الذي ابتدعه الإيراني حسين مهداوي عام 1970، فإنه برز على نطاق واسع في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن استخدمه الباحث البريطاني، ريتشارد أوتي، في دراساته المختلفة، والتي سعت إلى إيجاد علاقةٍ سببيةٍ بين وفرة الموارد الطبيعية في دول ما وفشلها اقتصاديًا، بخلاف الدول التي تعتمد على “موارد مصنعة industrialization Resourse”. وعلى هديه، سار كثيرون، أبرزهم غايلفاوسون، حيث قدم تفسيرات عدة لهذه الظاهرة، تتمثل في المرض الهولندي (Dutch diseas)، وتهميش الرأسمال البشري، والمادي، والاجتماعي. وبحسب غايلفاوسون، فإن علاقةً سلبيةً تنشأ ما بين اعتماد الناتج المحلي الإجمالي على صادرات المواد الأولية ونسبة النمو الاقتصادي، وهو ما سينعكس على البنية المؤسساتية للدولة، ويساهم في إنتاج سلوكياتٍ ريعية. على الجهة المقابلة، دأب باحثون كثيرون، منذ بداية القرن الماضي، على دراسة التأثيرات السياسيّة لوفرة الموارد، وخصوصاً الثروات المعدنية (النفط)، فمنهم من ركّز على علاقته بالصراعات والحروب الأهلية، مثل بول كوبير، وأنك هوفلير، ومنهم من اهتم بعلاقة النفط بالفساد، مثل جوزيف سيبغل وآخرين.
وتبقى مساهمة مايكل روس الأكثر أهمية، أكان ذلك في مقالته “هل يعيق النفط الديمقراطية؟” عام 2001، أو في كتابه “نقمة النفط: كيف تشكل الثروة النفطية نقمة على نمو الأمم” (2012)، والذي سعى فيه إلى تطوير فرضيته البسيطة السابقة التي كانت تجزم بحتمية وجود علاقةٍ عكسيّةٍ ما بين الوفرة النفطية والديمقراطية، كونها لم تصمد أمام الانتقادات الموجهة إليها، ولعل أبرزها وجود بلدانٍ نفطية وديمقراطية، مثل النرويج وكندا، ووجود بلدان نفطية في العالم النامي سارت باتجاه الديمقراطية، كما هو الحال مع نيجيريا وأندونيسيا، وحاول تجديدها من خلال “تضييقها”، لتشمل فقط بعض البلدان النفطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قبل أن يصل إلى نظريةٍ جديدةٍ صاغها في الفصل الثالث من الكتاب مفادها: نفط أكثر ديمقراطية أقل.
الربيع العربي مختبراً لأطروحة روس
لإثبات فرضيته، استحضر روس الاحتجاجات التي عمّت العالم العربي في عام 2011، واعتبر سهولة إسقاط أنظمةٍ في بلدان فقيرة بالنفط، مثل تونس ومصر، وصعوبته في دول غنية، مثل السعودية والجزائر، مؤشرًا ذا دلالةٍ على أهمية عامل النفط في دعم الديمقراطية، أو إعاقتها، نتيجة استخدام الأنظمة الديكتاتورية عائداته، لترسيخ سلطتها، والحيلولة دون حدوث إصلاحات ديمقراطية. وفي تفنيد العلاقة بين النفط وغياب الديمقراطية وآلياتها، يبدأ روس من المبدأ الأشهر لنشوء الديمقراطية التمثيلية “لا ضرائب بدون تمثيل”، ليؤكد أن الدول النفطية منحت مواطنيها مزايا اقتصادية كبيرة، مقارنة بالدول غير النفطية. ونظرًا لأن غالبية الأفراد يهتمون برفاههم الاقتصادي والاجتماعي أكثر من أي شيء آخر، فإن توزيع الريع يؤمن للأنظمة القائمة دعمًا شعبيًا، يجنبها مخاطر الاحتجاجات أو الانتفاضات. ولا تنعكس تداعيات الريع فقط على جانب التمثيل أو القيادة السياسيّة، بل يساهم في ترسيخ النظام الأبوي، ويحدّ من قدرة النساء في المشاركة الاقتصادية والسياسية في البرلمانات والحكومات، وقوى العمل. كما أن تكفّل الدولة بالإنفاق على مواطنيها، لشراء ولائهم، يدفعها الى إيجاد فرص عمل كاذبة، بشكلٍ يساهم في نشوء بطالة مقنعة، وخصوصاً بالنسبة للمرأة. من جهة أخرى، يحقق الاقتصاد المعتمد على ريع النفط معدلات نمو اقتصادي مضطربة، نتيجة تذبذب أسعار النفط، وهو ما ينعكس سلبًا على متوسط الدخل السنوي للفرد، وعلى حصته من الناتج القومي الإجمالي. وللتقليل من الآثار السلبية، يكون القطاع العام الملجأ الرئيس لمواطني الدول النفطية، بشكلٍ يقلص دور القطاع الخاص في الاقتصاد، وعلى كفاءة العاملين، وهي معطياتٌ مثلت الركيزة الأساسية لدراسة حازم الببلاوي عن “الدولة الريعية في العالم العربي”. أضف إلى ذلك، نبّه روس إلى أن وفرة الثروة دفعت الدول النفطية إلى الإنفاق على الجهاز القمعي (الأمن والجيش)، والذي يعد الضمانة الرئيسية لبقاء الاستبداد في الشرق الأوسط، كما تذهب دراساتٌ عديدة في ذلك.
اللعنة غير حتمية
قد تترك وفرة الموارد آثاراً سلبية، في حالاتٍ كثيرة، على النمط الاقتصادي المتبع، لكن التسليم بحتمية “اللعنة” في السياسات الاقتصاديّة قد لا يكون صحيحًا دائمًا. وبناءً عليه، ركز باحثون عديدون على التدابير الاقتصادية اللازمة للتغلب على التداعيات السلبية لوفرة الموارد الطبيعبية على مؤشرات الاقتصاد الكلي، مثل تجنب الديون الخارجية والمحلية، مراكمة الفائض من الميزانية، السيطرة على التضخم، واعتماد أسعار صرف تنافسيةٍ للعملات. أضف إلى ذلك، أن وفرة الموارد الطبيعية قد تكون عاملاً مشجعاً للدولة، لتنويع مواردها بانتهاج استراتيجيات استثمار جديدة، تضع في الاعتبار زيادة العائد المتوقع من قطاعات أخرى، خارج الصناعة النفطية. من جهة أخرى، قد تؤدي وفرة الثروة إلى اتساع حجم القطاع الخاص، وزيادة دوره، وبالتالي، قد يزداد تأثيره في دورة الإنتاج على المدى البعيد. وقد اقترح باحثون إشراك الأخير في إدارة الموارد الطبيعية، بما يساهم من تخفيف الأعباء الإدارية على الدولة، وتجاوز بيروقراطية القطاع العام، وللمساهمة في تنويع مصادر الدخل، نظراً إلى قدرة القطاع الخاص على الاستثمار في مجالاتٍ متعددةٍ، لا تستطيع الدولة الالتفات عليه.
ويدفعنا إقرار جميع الباحثين بضرورة استثناء حالتي النرويج وكندا من لعنة الموارد الطبيعية، إلى التشكيك في التسليم المسبق عن أن وفرة الموارد هي من أنتجت السياسات الاقتصادية الخاطئة، أو نموذج الدولة الريعية في الدول النامية، فقد يكون العكس هو الصحيح. ولا بد من الإشارة في هذا الإطار إلى أن معظم الدول الغنية بالموارد، وخصوصاً النفط والغاز، تقع ضمن العالم النامي، وقد استفادت من مواردها كثيراً في إنتاج بنية تحتية شاملة، لم تكن متوفرة لديها، وذلك بخلاف دول أخرى كثيرة، بما فيها دول تحولت نحو الديمقراطيّة. وجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تطرق إلى هذه النقطة في حملته الانتخابية، عندما قارن مطارات دبي وقطر مع مثيلاتها في الولايات المتحدة، ووصف الأخيرة بأنها مطارات دول عالم ثالث. عامل آخر، أشار إليه سيتفين هيرتوغ في كتابه عن السعودية، ويتجلى في أن الدول الريعية أنتجت شركاتٍ كبيرةً مملوكة للدولة، لكنها تعمل بكفاءةٍ جيدةٍ، مثل شركة أرامكو النفطية، والتي بقيت، حتى وقت قريب، بعيداً عن العائلة المالكة، واستطاعت أن تكون شركات مربحة، وتتجاوز كل المشكلات المعروفة في القطاع العام.
هل ما تزال صالحة؟
إذًا، واجهت أطروحة “لعنة الموارد” نقدًا بنيويًا في قدرتها التفسيرية، لكنها، على علاتها الكثيرة، ما تزال تقدم إطاراً تفسيرياً لعديد من نماذج الدول القائمة، وتبرز دول الخليج العربي من الأمثلة التفسيرية الشارحة بعض جوانب هذه الأطروحة، لاسيما بعد الأزمة الحالية. فبالإضافة إلى عجزها عن “التنويع الاقتصادي”، واجتراح وسائل لتأمين عائدات مالية خارج النفط، على الرغم من انخفاض أسعاره، وتراجع أهميته في ظل نزوع عالمي إلى استخدام مصادر بديلة، حولت بعض دول الخليج مواردها من “نعمة” إلى “نقمة” عليها وعلى غيرها، وأشهرتها سلاحاً ضد الشعوب الأخرى وتوقها إلى الحرية. خارج سياستها القمعية داخليًا، دعمت السعودية والإمارات، الأكثر إنتاجًا للنفط في المنطقة العربية، انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر 3 يوليو/ تموز 2013، واستنزفت من ميزانياتها عشرات المليارات لترسيخ بقائه، باعتباره أيقونة انتصارها على المد الثوري العربي، حيث الكلمة الأخيرة للشعوب.
ضمن السياق ذاته، اختارت الإمارات لعب دور فاعل على الساحة الإقليمية والدولية، من بوابة دعم الثورات المضادة والأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي، بخلاف جارتها اللدود قطر التي لعبت، هي الأخرى، دورًا إقليميًا يتجاوز حجمها الجغرافي والاقتصادي، عندما رحبت بثورات الربيع، واندفعت إلى دعم التجارب الديمقراطية العربية، الناشئة حديثًا، على الرغم من تقصيرها داخليًا في هذا المجال. أفشلت الإمارات عنوة الانتقال الليبي، وأدخلت هذا البلد النفطي في أتون حربٍ أهليةٍ طاحنة، عندما أعادت إلى الحياة جنرالًا مغموًرا، هو خليفة حفتر، لطالما وُصف في بلاده “خائناً”، ومن خلاله، حاولت استنساخ نموذج مصر في ليبيا، على الرغم من عدم وجود مؤسسة عسكرية شبيهة في ليبيا. وما تزال أبو ظبي على الرغم الاعتراف الدولي بحكومة الوفاق الليبية، تصر على دعم حفتر لإكمال انقلابه. أكثر من ذلك، أغدقت أبوظبي ملايين الدولارات في الولايات المتحدة رشىً لمؤسسات ومسوؤلين، بغرض الضغط على الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحاليّة، لتبني سياستها الهدّامة في عموم المنطقة، بذريعة مواجهة “التطرف والإرهاب”. أما السعوديّة، وعلى الرغم من افتقارها خطط تنميةٍ مستدامة، ودخولها مرحلة اقتصادية حرجة، بعد انخفاض أسعار النفط، فما تزال هي الأخرى تعاني، شأن دول العالم الثالث “الفقيرة” من مشكلات البطالة، والفساد، والإسكان، وانعدام الكفاءة الإدارية في تدبير الموارد، إلى درجة أن الخطط الاقتصادية لولي العهد الجديد، محمد بن سلمان، والمعروفة بـ “رؤية 2023” اقتربت، ولأول مرة، من شركة أرامكو “الدجاجة التي تبيض ذهبًا”، حيث بيع جزء منها على المتوسط منها.
في المحصلة، لعنت دول في الخليج العربيّ من مواردها أكثر مما استفادت منها، فكانت الوفرة وبالًا عليها، بدل أن تكون مصدر “غنى”، إذ صنعت دولة الرفاه من دون أسس متينة، فأضحت اقتصادياتها تدار وفق منطق “الغنيمة”، وهو المنطق التي تحاول الإمارات والسعودية به التعامل مع قطر وفق ما أوضحته قائمة المطالب المسربة، من خلال المطالبة بتعويضات مالية بأثر رجعي لتعويض خسائرها الباهظة في سياساتها الخاطئة.
- نقلاً عن: العربي الجديد
Sorry Comments are closed