إبراهيم نصر الله يكتب: فلسطين في غرف العصافير

فريق التحرير29 يونيو 2017Last Update :

* إبراهيم نصر الله

في تصريح متلفز شهير له، قال رئيس السلطة الفلسطينية: (أنا أتحدى (الكيان الصهيوني) إذا كان لديه أي معلومة أمنية، فأنا سأقوم بها (أنفذها)، وإذا لم أقم بها فليأت هو وينفذها، صح؟!)
لا يستدعي هذا القول سؤالاً استنكارياً، فحسب، مثل: كم من زعيم استطاع أن يقول كلاماً كهذا ووطنه لم يزل يرزح تحت الاحتلال؟ لأن الجملة خرجت من إطار التصريح، وباتت جزءاً من الحقائق المُرة على الأرض، مع نشر أكثر التقارير إثارة للرعب، الصادر عن مركز أحرار لدراسات الأسرى وحقوق الإنسان، الذي كانت نتيجته: إن عدد المطلوبين لجيش الاحتلال الصهيوني في مناطق الضفة الغربية المحتلة هو صفر، بمعنى أنه لا يوجد الآن أي مطلوب أو مطارد أو فلسطيني مضطر للتخفي بتهمة مقاومة الاحتلال!

في ظني أن هذا التقرير هو أخطر تقرير عن فلسطين منذ أن اجتاحتها القوات الإنجليزية عام 1917، حتى اليوم. فالظاهرة الجديدة التي تبين لنا أن النمور في اليوم العاشر، حسب عنوان القصة الفذة لزكريا تامر، ومضامينها، تستدعي مراجعة كل شيء من جديد، ولا تبدو السلطة الفلسطينية وحدها التي في القفص، وإن كانت قد لعبت دور المُفسد والمُروِّض المُروَّض والحليف والصديق لعدو لم يزل يحتل الأرض، بل تجلس، مع هذه السلطة، في القفص كل التنظيمات الفلسطينية، سواء تلك التي نحبها ونحترم تاريخها، الذي عُرف نقياً ومبدئياً، وكذلك التنظيمات التي استطاعت أن تلعب على الحبلين، أو مائة حبل، أو التنظيم الأكبر، الذي لم يزل يعتقد أنه الأكثر تأثيراً لأنه الحزب الحاكم، فوجود أي حزب على رأس الحكم، لم يعن في أي يوم من الأيام أنه الحزب المختار شعبياً، فما يحدث من سنوات طويلة في الضفة الغربية على مستوى تمثيل الناس، لا علاقة له بأي قيم ديمقراطية، واستمرار الانقسام، يضاعف لا ديمقراطية الوضع بحيث لا يمكننا الدفاع عن ديمقراطية غزة أيضاً، ففلسطين أعظم من أن تتقاسمها سلطتان.

ونعود للتقرير الذي تلعب السلطة دوراً أساساً في محصلة نتائجه، لكن الانقسام الفلسطيني، أيضاً، هو حزب خامس أو سادس أو سابع يضاف إلى قائمة الأحزاب التي أوصلت نمورنا إلى يوم ترويضها في اليوم العاشر المشؤوم.

.. ولعل الأمر بات يستدعي جرأة أكبر في الحديث عن جذور هذه المسألة، التي تفتحت بكل تأكيد، بعد وصول السلطة إلى الداخل، وما تلا هذا الوصول من عد تنازلي أوصل النضال الفلسطيني إلى نقطة الصفر هذه.

لعل من الضروري أن تتم إعادة مراجعة تلك المقولات الرجراجة التي ظلت تُتداول حول السلطة، كوسيلة للدفاع عنها، كأن يقال بأن فلانا كان مُفسداً وليس فاسداً! وهي جملة ماحية للوعي، أو تسعى لمحوه بليونة غير عادية، لأن الإفساد كان هو الظاهرة الخطيرة، الظاهرة التي بدأت تتقصد النخب السياسية والثقافية، ثم تم تعميمها على الشارع، لا بالاستعباد المباشر للناس، بل بتحويلهم إلى رهائن للرواتب، التي استُخدمت كسياط للتجويع والترويع، حسبما اقتضى الموقف، كما تستخدم اليوم مسألة الكهرباء في غزة، وقطعها من قبل السلطة تماماً عن القطاع، أو توفير نصف الاحتياجات. كما أن تحويل البشر إلى رهائن للقروض والقرارات الإجبارية المبكرة للإحالة على التقاعد، التي حيدت كل من له رأي أو له كلمة مسموعة أو رؤية مختلفة لطبيعة الصراع، كل ذلك أوصل الأمر إلى نقطة الصفر هذه.

قبل فترة بثت قناة الجزيرة فيلماً وثائقياً عن العملاء، والتقت عميلاً يفتخر بموقفه، ويدافع عنه، حتى بعد تعرضه، حسب قوله، إلى سبع عشرة عملية اغتيال، تركت إحداها رصاصة في داخل رأسه، موجودة حتى اليوم.

يستعرض العميل عبد الحميد الرجوب تجاربه، ويعيد إلى نفسه الفضل في فكرة تأسيس غرف العصافير، وهي اصطلاح لتلك الزنازين التي يتم إدخال المقاومين الفلسطينيين الذين لم يعترفوا، إليها، وهناك يجدون مجموعة من المتعاونين مع الاحتلال الذي يدّعون بأنهم أسرى، فيتظاهرون بحبهم للمقاوم وتشجيعهم، ويبدأون بسرد بطولاتهم، كي يسرد بطولاته، أو يأمره أحدهم باعتباره مسؤولاً في التنظيم، أن يقدِّم تقريراً حول كل ما قام به، وهكذا يسقط المقاوم في الفخ.

عبد الحميد الرجوب هذا يقول: بدل أن يتعذب المحققون الإسرائيليون لأيام أو أسابيع أو أشهر وهم يحاولون انتزاع اعتراف (المتهم)، فإنني خلال ساعة أحلّ لهم المشكلة!

.. وفي حديث لأسير بطل عن تجربته، قال إن بعض العصافير هؤلاء يكونون الأكثر تشددا على المستوى المبدئي للقضية، ويوهمونك أنهم حماتها، كما أن أحد العصافير كان ينهانا عن كل منكر، ويجبرنا على أن نحفظ كل يوم صفحة من القرآن الكريم، بحيث لم نشك فيه أبداً.

بالطبع، تنبهت الحركة الوطنية الأسيرة للعصافير وغرفهم منذ زمن طويل، بحيث تم إعدام بعض العصافير في تلك الغرف، لكن المسألة باتت اليوم أعقد من ذلك.

العميل البغيض عبد الحميد الرجوب يتساءل في مقابلته مع الجزيرة: هل أنا فعلا خائن؟ لماذا؟ هل لأنني ساهمت في قتل مطلوبين؟ في سجنهم؟ في تعقيد حياتهم؟ أبداً، انظروا إلى ما يفعله فلان ..، وفلان..، وفلان… كنت أطارد شخصاً أو شخصين، ولكنهم يطاردون شعباً بأكمله، فهل أنا العميل فعلاً؟

بالتأكيد، سيبقى عبد الحميد الرجوب عميلاً، وفق كل المعايير الإنسانية، لكن ما يرعب هو كيف تم تحويل الضفة بأكملها، من قبل مجموعة فاسدة إلى غرفة عصافير كبيرة تلجم وتكتم وتسحق أي محاولة تمرد؟

على أي حال، ورغم هذا التقرير بالغ القتامة، فأمر كهذا لا يمكن أن يستمر، لأن التقرير يتحدث عن بعض من صمتوا وبعض من استكانوا وبعض من تم ترويعهم، ولكننا واثقون من أن كل واحد من مئات الآلاف ممن ليسوا مطلوبين، هو مقام مستتر تقديره ضمير الوطن، ولعل الحقيقة الأعمق، أن السلطة والكيان الصهيوني، بتنسيقهما الأمني وسواه، لن يستطيعوا معرفة أي من أولئك الذين يُضمر وعيهم ويرعى حب فلسطين وحريتها؛ فهؤلاء دائماً هم من يفاجئون كل توقعات العملاء، وفي كل مكان في الأرض، أليسوا هم من يفجر الثورات مرة تلو أخرى.

لن نتشاءم، لأن من يديرون غرف العصافير من داخلها وخارجها لن يكونوا متفائلين أو مطمئنين، مهما فعلوا.

  • نقلاً عن: القدس العربي
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل