* عمر قدور
في سعينا إلى الاختزال، نستخدم غالباً كلمة النظام على سبيل الهجاء. فالنظام، وفق هذه الدلالة الشائعة، طغمة حاكمة عن طريق القسر، لا تملك شرعية شعبية أو اجتماعية كاملة، بخلاف الدولة التي يُفترض أنها تحظى بهما.
مع ذلك، يبقى مفهوم الدولة غائماً، خصوصاً مع التطورات التي طرأت على مفهوم الدولة-الأمة. المفهوم الذي بدأ تداوله مع دولة الصَهْر القومي، ثم أصبح يتضمن على نحو مجازي الدولة متعددة القوميات أو الدولة اللامركزية على اختلاف تنويعاتها.
مشكلتنا مع مفهوم الدولة تبدأ من اختزاله بمفهوم آخر هو السيادة، فحيث تتحقق الأخيرة يصبح إطلاق وصف الدولة بديهياً يشبه وصفها عندما تنضوي في مؤسسات دولية سياسية وتنال فيها العضوية الكاملة. أي أن الدولة في عمق هذا التصور هي ما يعترف به العالم ككيان سياسي وحقوقي مستقل، بصرف النظر عن تحقق الدولة داخلياً. الاعتراف الخارجي لا يميز أساساً بين الدولة أو الأنظمة، أو دول التنظيمات. سيكون طريفا حقاً أن يستخدم داعش، بالمصادفة ليس إلا، اسماً مطابقاً هو «تنظيم الدولة الإسلامية».
تجاور كلمتي تنظيم ودولة في الاسم، على ما فيهما من تفارق ونفي، يمثلان حال التنظيم ودولته، لكنهما يغريان في الوقت ذاته بالتفكير في المزيد من حالات التفارق والنفي المتبادل.
في سورية لم يعد نادراً وصف «النظام» بـ «تنظيم الدولة الأسدية»، هذا القياس على داعش يتوخى قياس الأسوأ على الأسوأ بالمعنى المباشر، ويتضمن بالطبع تنزيل مرتبة ما يدرج وصفه بالنظام إلى مجرد تنظيم. المشابهة المتوخاة تأتي أيضاً من المقارنة المباشرة بين إرهابين، والوصل بين ضفتيهما يأتي من اعتبارهما خارجين عن التمثيل الاجتماعي الذي يتضمنه مفهوم الدولة، أي أننا أمام تنظيم يغتصب مفهوم الدولة، وتنظيم آخر يغتصب دولة بكل ما فيها، حتى إذا اقتضى ذلك التضحية بسيادتها.
ثمة اعتـــــراف في هذا السياق بأن النظام انحدر إلى تنظــــيم، فهو كان محمولاً من قبل على أيديولوجيا شمـــــولية (البعث)، وكان محمولاً على وجود معسكر اشتــــراكي ملهِم وصديق، ولو كانت هذه البنية ستاراً لتحول تدريجي في مشروع الدولة والنظام معاً. كان لحدث مثل الثورة أن يكشف ذلك التحول، فما كان نظاماً انكشف عن تنظيم دموي لا يقيم أدنى اعتبار لمتطلبات المجتمع. الاستثمار الطائفي الفظ، وإن لم يأتِ من فراغ، هو توسل التنظيم مشروعية اجتماعية ضيقة، إثر انكشافه على النطاق الأوسع.
إذا قلنا بأن الدولة-الأمة، من دون تلبيس الأمة مفهــــومـــاً قومياً، هي في الأصل كيان مطابق لمجتمعه، فالنظام (بالمقارنة) ينزاح دلالياً ليأخذ صفة قسر ما للمجتمع، والنظام أكثر ما ينطبق دلالياً على الأنظمة التوتاليتارية. هكذا على الأقل هو المفهوم السلبي السائد لتعبير النظام غربياً، والركن المفتقد فيه هو عدم مجيئه جرّاء مجموع الإرادات الحرة كما استقر الحال في الدول.
غياب الديموقراطية، بوصفها شرطاً من شروط الدولة الحديثة، يُستعاض عنه غالباً بمشاريع للهندسة الاجتماعية تحت أيديولوجيات تنقض مطابقة الدولة للمجتمع. العداء هنا ليس طارئاً، السلوك الميليشياوي الحالي تحصيل حاصل، فنظام البعث مثلاً تأسس على العداء لسورية كدولة بتصغيرها إلى قُطر من الوطن الكبير، وتكفّل بنفي الجماعات الإثنية المخالفة حيث لم تعد هناك دولة مطابقة للاختلاف.
نظرياً، قد نستطيع نسب الكيانات المعاصرة الموجودة إلى ثلاث أرومات رئيسة، الدول والأنظمة ودول التنظيمات. الأولى منها هي التي حققت استقراراً مديداً بوجودها المستند على عقد اجتماعي حر، أما الأنظمة فهي «ظاهراً على الأقل» مشروعُ تمثّلٍ لعهد أسبق كانت فيه الدولة تمتلك ميزات أكثر قسرية، إلى هذه الأنظمة تنتمي ديكتاتوريات غربية آفلة، والبعض من ديكتاتوريات أميركا اللاتينية والآسيوية الذي سار في طريق الديموقراطية بلا عودة حتى الآن.
التمييز سيصبح ضرورياً إذا تحدثنا اليوم مثلاً عن نظام بوتين، أو عن النظام الصيني، مقارنة بـ «نظام الأسد» وما يشابهه، وأيضاً إذا قارنا بين النظامين ودول الديموقراطيات العريقة. وإذا كانت هذه المقارنة تستدعي تصنيفاً قديماً معروفاً بين العوالم الأول والثاني والثالث فهي ذات مضمون مختلف، لأن بعض أنظمة العالم الثاني اتجه ليكون دولاً ديموقراطية، وكذلك فعل بعض أنظمة العالم الثالث، وكما سلف هناك أنظمة انحدرت لتكون تنظيمات.
في دول الثورات العربية خصوصاً ثبـــــت بالدلـــيل «الـفاجر» أننا لم نكن إزاء أنظمة، كما ظننا أو توقعـــــنا. هناك تنظيمات دول على قياس التسمية الداعشية، حيث توافرت بكثافة النية الجرمية لدى هذه التنظيمات كي تدمر مجتمعاتها، في دلالة مناقـــضة كلياً لمفهوم الدولة. وربما يكون أحد أسباب الثــــورات ذلك الانحدار المريع من مشروع النظام إلى التنظيم حيث تحتكر عصبة، بالمعنى المبتذل لا بمعنــــى الطبقة السياسية، كافة الفضاءات السياسية والمجتمعية والاقتصادية. من هذا الاحتكار لا يبقى لزوم للنظام، فالأخير في جانب منه أيضاً هو توليف بين العديد من المصالح الواسعة ولو لم يخلُ من القسر. لم تكن مصادفة بالطبع أن تكف التنظيمات عن ادّعائها الأيديولوجي، الذي كان لها عندما كانت مشروع أنظمة، فالسلطة بعدّها مشروعاً قائماً بذاته واحد من مظاهر التحول والتحلل.
لقد طرحت الثورات حلم الدولة، وكان ممكناً لو سمحت بنية التنظيمات المسيطرة على الحكم الوصول إلى تسوية يُستعاد من خلالها النظام كمرحلة انتقالية، إلا أن ما وصلت إليه تنظيمات الدول من رثاثة على الصعيد الوطني ونأي مطلق عن الدولة جعلا من التسوية أو التصالح مع المجتمع أمرين مستحيلين. لأسباب مختلفة، هذه هي أيضاً التسوية التي يسعى إليها العديد من القوى الدولية، إنقاذ بقايا النظام من التنظيم أو العصابة التي أجهزت عليه.
قد تذكّر التسوية المطروحة بالثورات التي أعقبتها ديكتاتوريات، لكن الرهان على تحول طغيان العصبة المشرقي إلى نظام ديكتاتوري قد لا يملك حظاً من النجاح يفوق الفرصة التي امتلكتها الثورات في النجاح. هذا الفشل المزدوج هو ما ستظهر نتائجه تباعاً بعد مضي موجة الانتشاء بطي صفحة الانتفاضات، ولن تمتلك تنظيمات الدول إجابة عليه سوى ما اعتادت على تقديمه من أسباب الدمار المقبل، ولا يُستبعد أن يصبح هذا حال من فقدوا حلم الدولة.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة