لا يحتاج النظام في سورية إلى محاكم لممارسة سياساته المجحفة بحق غالبية الشعب السوري، سواء في الظروف الحالية التي تعيشها البلاد أم قبل ذلك. فالنظام يفتك بالسوريين بوسائل شتى، من بينها المحاكم الصورية التي أقامها، بغية إعطاء “شكل قانوني” لممارسته التي هي أقرب إلى الإجرام والقتل منها إلى القصاص والعدالة. ويسجل تاريخ البلاد عمليات قتل واسعة جرت في العقود الماضية، خصوصاً داخل سجون النظام ومعتقلاته، بعيداً عن أي سلطة قضائية ولو شكلية، كما حدث في سجن تدمر عام 1980 ومناطق أخرى في إدلب وحلب وريف دمشق، خصوصاً في فترة الصدام بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي. ومع اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011 ازدادت وتيرة القمع والقتل بشكل كبير، فحاول النظام إعطاء صفة قانونية لعمليات القتل عبر تمرير بعضها ضمن محاكم شكلية أحياها أو أنشأها لهذا الغرض، تحديداً محكمتي الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب.
المحكمة الميدانية العسكرية
يعود تاريخ المحكمة الميدانية في سورية إلى فترة الستينيات من القرن الماضي. وعُدّلت في دستور عام 1973، ثم تمّ حرف عملها في ثمانينيات القرن الماضي خلال الصدامات بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين. يقع مقرّها الرئيسي في منطقة القابون، في دمشق، وكانت محكمة واحدة فقط، ولكن بعد انطلاق الثورة السورية تم تشكيل محكمتين ميدانيتين إضافيتين مطلع عام 2012، مقرّهما في دمشق أيضاً، واحدة في القابون والأخرى في معسكر التدريب الجامعي بالديماس قرب نادي الفروسية.
تتشكل المحكمة بقرار من وزير الدفاع من رئيس وعضوين، ولا تقل رتبة الرئيس عن رائد والأعضاء عن نقيب. إجراءاتها شكلية، وأحكامها قطعية وغير قابلة للطعن. وفي كثير من الأحيان لا يعلم المحكوم بقرار أو مدة حكمه ولا يحق له الدفاع عن نفسه ولا يوجد فيها ترافع من قبل محام. ومن الناحية الشكلية، يجب أن تخضع أحكام الإعدام فيها لتصديق رئيس الدولة، أما باقي الأحكام فيجري تصديقها من وزير الدفاع. غير أن المحامية نورا غازي، وهي ناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان، وزوجها معتقل لدى النظام، كشفت لـ”العربي الجديد”، أن “رئيس الجمهورية أعطى تفويضاً لوزير الدفاع للمصادقة على أحكام الإعدام، نظراً لكثرتها في السنوات الأخيرة، وكي لا تحسب عليه”.
وأضافت أن “هذه المحكمة كانت في الأصل مختصة بمحاكمة العسكريين الذين يرتكبون مخالفات أو أفعال جرمية، ومنها التخابر مع العدو أثناء حالة الحرب مع عدو خارجي. وقد استخدمت في الثمانينيات لردع بعض التجاوزات المدنية مثل سرقة المازوت، ثم توارى نشاطها خلال التسعينيات إلى أن تم إحياؤها مع اندلاع الثورة السورية، إذ يجري تحويل المشاركين أو المتهمين بالمشاركة في فاعليات عسكرية أو سلمية من عسكريين ومدنيين على السواء، إلى هذه المحكمة بتهمة الإرهاب”.
ولفتت غازي إلى أن “إجراءات المحاكمة شكلية وسرية، والاستجواب يعتمد على الضبط المقدم من الفروع الأمنية، حيث كان يحتجر المعتقل برغم علم القائمين على المحكمة بأن هذه الاعترافات جرى انتزاعها بالقوة وتحت التعذيب”. وأوضحت أنه “لا يحقّ لأي جهة الطعن بأحكام المحكمة سوى رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، ويحق لهما تخفيف العقوبة أو استبدالها بعقوبة أخرى أو إلغائها مع حفظ الدعوى. كما يجوز لهما أن يأمرا بإعادة المحاكمة أمام محكمة ميدان أخرى”. وأشارت إلى أن “هناك محاكم ميدانية أيضاً داخل الأفرع الأمنية، وتصدر أحكامها على المعتقلين لدى هذه الأفرع، وهي أحكام يجري تنفيذها فوراً، وغالباً ما تكون أحكامها بالإعدام”.
وبالنسبة للمحاكمات في محكمتي الميدان خارج الأفرع الأمنية، أشارت غازي إلى أن “لديها سجلاً تنفيذياً بالقضاء العسكري في المزة والقابون، وجلساتها قصيرة جداً، ولا تتجاوز الدقيقتين، على أن يعود بعدها المعتقلون إلى سجونهم في عدرا أو صيدنايا، ليتبلغوا أحكامهم، وتنفّذ أحكام الإعدام غالباً في سجن صيدنايا، لكن هناك أحكاماً تنفذ خارج صيدنايا، تحديداً داخل الأفرع الأمنية. وأخيراً، ونتيجةً لزيادة أعداد المعتقلين خلال فترة الثورة السورية وبسبب عدم استيعاب سجن صيدنايا لهذه الأعداد، يتم تحويل بعض المعتقلين إلى سجون مدنية داخل المحافظات”.
وأوضحت أنه “لا يعرف حتى الآن أن هناك محاكم ميدانية عسكرية في المحافظات الأخرى، وجرت العادة أن يحال المعتقلون إلى دمشق من جميع المحافظات، سواء من الأفرع الأمنية فيها أم سجون النظام في تلك المحافظات. ومنذ انطلاق الحراك الشعبي في سورية في مارس/ آذار 2011، أصدرت هذه المحكمة عشرات آلاف الأحكام بحق الناشطين في الثورة من مدنيين وعسكريين، وتميزت بقسوتها لكونها تبدأ بخمس سنوات وصولاً إلى عقوبة الإعدام”.
وبحسب تقرير للخارجية الأميركية صدر أخيراً، فإن هناك 50 عملية إعدام تتم يومياً في سجن صيدنايا خلال السنوات الأخيرة. مع العلم أن معظم من تم تحويلهم إلى هذه المحكمة هم نشطاء، ذكور وإناث، في المجال الطبي والإغاثي والإعلامي، أو ممّن ساهموا في الإعداد للتظاهرات والعمل في المجال الإلكتروني، أو تم اعتقالهم بشكل عشوائي وإجبارهم تحت التعذيب في الأجهزة الأمنية على التوقيع على اعترافات ملفقة. وطبعاً لا يسمح للمحامين أو منظمات حقوق الإنسان بالاطلاع على عمل هذه المحاكم الصورية.
وأفادت مصادر بأنه جرى التوصل بين رؤساء أفرع التحقيق بالجهات الأمنية الأربع في سورية، مع رئيس المحكمة الميدانية اللواء محمد كنجو، إلى اتفاق يقضي بإضافة عبارة واحدة في إفادة الموقوفين الذين يريدون إعدامهم، ولو لم يذكرها هؤلاء الموقوفون أثناء التحقيق. وهذه العبارة هي: “… كما أقدمت بالاشتراك مع آخرين على مهاجمة حاجز كذا أو مركز كذا أو النقطة كذا (مناطق عسكرية لقوات النظام) بالأسلحة النارية، مما أدى إلى استشهاد عدد من عناصر هذه المراكز أو الحواجز أو النقاط وإصابة آخرين”. ويفسح ذلك المجال للقاضي بأن يصدر بحق المتهمين أحكاماً بالإعدام.
محكمة الإرهاب
أُنشئت “محكمة الإرهاب” عام 2012 بمرسوم من رئيس النظام بشار الأسد، على أنقاض “محكمة أمن الدولة العليا”، التي كانت أنشئت عام 1968، وذلك بعد إلغاء قانون الطوارئ، ما جعل “محكمة أمن الدولة” بلا “مستند قانوني”. أما “قانون مكافحة الإرهاب” فقد حدّد اختصاص “محكمة الإرهاب” بالنظر في “جرائم الإرهاب وبكافة الجرائم التي تحال إليها من النيابة العامة”، على نحو يشبه إلى حدّ كبير اختصاص محكمة أمن الدولة الملغاة بما يحمي النظام، وليس الدولة، ويقمع المناهضين له.
وحاولت السلطة أن تتجاوز الانتقادات التي كانت توجه لـ”محكمة أمن الدولة” السابقة، بكونها محكمة استثنائية فجهدت لدمجها مع النظام القضائي السوري شكلاً، ولكنها أبقت على طابعها الاستثنائي، وحصرتها في دمشق، وأبقت على صلاحية الرئاسة بتعيين القضاة في المحكمة وليس مجلس القضاء الأعلى. وهي تتشكل من 3 قضاة كل منهم بمرتبة مستشار رئيس وعضوين، أحدهما عسكري، وتتم تسميتهم بمرسوم بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى.
ومع إلغاء منصب “الحاكم العرفي” المخول بتصديق أحكام محكمة أمن الدولة العليا برفع حالة الطوارئ، استُحدِثَت غرفة خاصة لمحكمة الإرهاب مع احتفاظ رئيس الجمهورية (الحاكم العرفي الجديد) بحق تشكيلها بمرسوم. وأعفت السلطة المحكمة من التقيد بالأصول والإجراءات، و”لا تتقيد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة”، متشابهة بذلك مع محكمة الميدان العسكرية.
واستحدث قانون المحكمة جرائم جديدة يعاقب عليها القانون، مثل “استخدام وسائل التواصل الإلكتروني”، وذلك “بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية”، وجريمة “عدم التبليغ”، وتشمل “كل سوري أو أجنبي مقيم في سورية علم بإحدى الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون ولم يخبر السلطة عنها”، اضافة إلى العقاب على “النوايا”، وتشمل “التفكير بالقيام بالعمل من دون ضرورة وجود أفعال مادية تؤيد ذلك”. ولم يميز قانون المحكمة بين الحدث والبالغ وبين المدني والعسكري.
وقد مثل أمام هذه المحكمة عشرات الآلاف، تراوح تهمهم بين حمل السلاح والقيام بعمليات إرهابية إلى استخدام وسائل التواصل للتعبير عن الرأي والنشاط السلمي، كالتظاهر وتقديم الإغاثة للمهجرين والمحاصرين وتقديم المعونة الطبية للجرحى والمصابين. وهناك على سبيل المثال متهمون بحمل ربطات خبز للمناطق المحاصرة، ونساء متهمات بطبخ الطعام لأولادهن من المقاتلين، وهناك أطفال تصل أعمارهم لبضعة أشهر فقط لانتساب أحد أفراد أسرتهم للمقاتلين، إضافة لمئات الأطباء والصيادلة المتهمين بتقديم إسعافات وأدوية للمصابين وآلاف النشطاء السلميين والصحافيين والمحامين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي.
تقع محكمة الإرهاب في مبنى وزارة العدل على أوتوستراد المزة في دمشق. وعادة ما يمنع أهالي المعتقلين من دخول مبنى المحكمة وحتى المحامين. والقضاة المعيَّنون من قبل النظام في المحكمة، غير مسؤولين عن هذه الإجراءات، وهي خارج نطاق صلاحياتهم، فعناصر الأمن الموجودة لا تتبع لهم ولا تنفذ أوامرهم، وإنما تتبع جهات أمنية يتلقون منها الأوامر.
وحسب آخر إحصائيات مسربة من محكمة الإرهاب، فإن هناك أكثر من مئة ألف عرضوا على المحكمة بعضهم لم يتم توقيفه بعد، وقسم آخر أحيلت ملفاتهم للمحكمة من دون أن يُحال الأشخاص الذين ما زالوا بالفروع الأمنية. وهناك حوالي أربعة آلاف متهم أحيلوا موقوفين مع ملفاتهم.
وتقول بعض المعطيات إن أعداد الذين تمّت محاكمتهم أو ينتظرون المحاكمة وصلت إلى ما بين 50 إلى 70 ألف معتقل، وقد تصل الأحكام في حالات كثيرة إلى الإعدام. وهناك اليوم آلاف المتهمين المحالين إلى المحكمة في سجن عدرا، والبعض الآخر في الفروع الأمنية، بينما هناك آخرون هم خارج البلاد أو من المطلوبين أمنياً ومتخفون داخل البلاد. ومع كل ضبط يُنظم بحق أي معتقل تتم إحالته إلى محكمة قضايا الإرهاب، يطلب الأمن من المحكمة إلقاء الحجز على أموال المعتقل وممتلكاته ومنع سفره، حتى ولو كان جرمه التظاهر أو الكتابة على فيسبوك.
ولا يفيد توكيل المحامي أمام تشديد الإجراءات المتخذة من قبل قضاة المحكمة تجاه المعتقلين، غير أن المحامية نور غازي أفادت بأنه بحسب معلوماتها “فإنه لم يتم حتى الآن تنفيذ أي حكم إعدام صادر عن هذه المحكمة، لأن محكمة النقض بالمزة تقوم بنقض أحكام الإعدام، من دون أن يعني ذلك أن الأحكام لن تنفذ، لكن ذلك قد يستغرق بعض الوقت”.
- المصدر: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة