* مروان قبلان
تقدّم إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مادة دسمة للباحثين في نظريات الدولة ونظم الحكم، وعلاقات السلطة والثروة في الولايات المتحدة، وتمثل فوق ذلك تحدياً كبيراً لمسلمات شائعة واستنتاجاتٍ كثيرة راسخة عن النظام السياسي الأميركي.
فمن جهةٍ، تكشف هذه الرئاسة عن مدى صعوبة حكم واشنطن ضد إرادة “الاستبلشمنت”، والتي أخذ بعضهم يشبهها تندّراً “بالدولة العميقة” في دول في العالم الثالث، خصوصا من رئيس شعبوي، يفتقر إلى الكفاءة والكياسة، ويتبع فوق ذلك أسلوباً عدائياً في إدارة النظام السياسي الذي يقف على رأسه.
من جهة أخرى، توضح رئاسة ترامب أن التمتع بثقة المؤسسة العسكرية وتأييدها لا يعد عاملاً كافياً للحكم في نظام ديمقراطي، الأميركي خصوصا. لا شك أن المؤسسة العسكرية التي تتمتع اليوم بسيطرةٍ شبه مطلقةٍ على عملية صنع القرار في مجالات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، تعد الداعم الأكبر للرئيس، بعد أن عانت من تهميشٍ غير مسبوق في عهد سلفه، لكنها لن تستطيع بالتأكيد حمايته في حال ثبت تورّطه في شبهةٍ جرمية.
بالمثل، لا يعد التمتّع بالأغلبية الحزبية في مجلسي الشيوخ والنواب شرطاً كافياً لرئاسةٍ قويةٍ ومستقرة، كما يدل واقع الحال. فمن الممكن جداً أن يتخلّى الحزب عن رئيسه، لا بل يمكن حتى أن يتبرأ منه، إذا بات يشكل عبئاً عليه، خصوصا في عام انتخابي، وهو ما قد يحصل إذا اقتربت التحقيقات كثيراً من ترامب فيما أصبح يعرف بـ “رشا غيت”.
لا تكمن مشكلة ترامب فقط في شخصيته الغرائبية، ومعارضة “الاستبلشمنت” له، وشبهات تحوم حول علاقة حملته الانتخابية بالحكومة الروسية، بل زادها صعوبةً إسهامه في صنع مزيج قاتل من الخصوم، ممثلاً بتحالف الإعلام والاستخبارات.
فمنذ ما قبل أدائه اليمين الدستورية رئيساً للولايات المتحدة، دخل ترامب في علاقة عداء مع مجتمع الاستخبارات الذي عبر عن عدم ثقته بالرئيس، نتيجة ما توفر له من شكوك حول دور روسي في إيصاله إلى البيت الأبيض. من جهة ثانية، لم يترك ترامب مناسبةً إلا وهاجم فيها وسائل الإعلام، حتى حولها إلى خصم لدود، وظن أنه يعاقبها بإبعادها عن مؤتمراته الصحافية واجتماعاته الدبلوماسية، لا بل ذهب بعض معاونيه إلى وصف الإعلام، الليبرالي خصوصا، بأنه حزب المعارضة الرئيس في البلاد.
الرئيس الأميركي لا يقرأ، وإلا لكان تمتّع بالكياسة المطلوبة، لتفادي خطأ جمع خصمين خطيرين على عداء إدارته، فما تسلطت الاستخبارات والإعلام على إدارةٍ إلا وقضت عليها. من غير الواضح حجم الفائدة المتحققة الآن من اطلاع ترامب على سيرة الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون، (حكم بين عامي 1969-1974) ليس فقط لأنه قد يلقى مصيره، بل لأن نيكسون قاد أيضاً أكثر الإدارات الأميركية عداءً لوسائل الإعلام في التاريخ الأميركي، ودفع ثمناً كبيراً نتيجة ذلك. أعلن نيكسون الحرب على الإعلام في وقتٍ بدأ يفقد فيه السيطرة على تماسك إدارته، في عز الحرب في فيتنام. في سنوات حكمه الأولى، كان نيكسون يردّد قولًا مأثوراً في واشنطن “إذا كانت الإدارة متماسكة يفقد الإعلام حواسّه، ويغدو سهل القياد”. فالإعلام يحتاج إلى معلوماتٍ لبناء قصته الإخبارية، والمعلومات لا تتسرّب إلا من بين الشروخ.
عندما انفجرت فضيحة ووترغيت، كان نيكسون قد ضمن سلفاً عداء الإعلام، في وقتٍ أخذت نخب واشنطن تفقد الثقة بقدرته على كسب الحرب في فيتنام. عندها، أخذت الشروخ تتسع، والتسريبات تتدفق، ليتلقفها الإعلام وليسدد له الضربة تلو الأخرى، حتى أسقطه بالقاضية. وضع ترامب اليوم يبدو أصعب من وضع نيكسون الذي صاح صباح يوم خريفي من عام 1972 في وجه مساعديه “الصحافة هي العدو”. فالإعلام الأميركي يمتلك اليوم هوامش أكثر اتساعاً من هوامش الحرب الباردة، وفريق الرئيس “متهمٌ” بعلاقته بدولةٍ أجنبية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي حانق على إطاحة رئيسه. ومؤكد أن المؤسسة الأمنية لن توفر فرصةً للقضاء على الرئيس “الغريب”، فهي تملك المعلومات، والإعلام متلهفٌ للنشر، وظني أن فرص ترامب في النجاة باتت ضئيلةً، وستستمر في التضاؤل حتى يخرج.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة