* صبحي حديدي
الآن وقد فاجأ الرئيس الإيراني حسن روحاني أنصاره، قبل خصومه ربما، بانتصار كاسح من الجولة الأولى، لم يكن هو شخصياً ينتظره على هذا النحو، أغلب الظنّ؛ فإنّ الأسئلة الملحّة، والواقعية تماماً، التي تعقب فورة الانتصار، هي التالية: وماذا بعد؟ ما الذي عجز روحاني عن إنجازه في رئاسته الأولى، ويعد اليوم بإتمامه على مدار السنوات الأربع في الرئاسة الثانية؟ وإذا جاز أنّ المرشد الأعلى، علي خامنئي، تقصد ضبط هوامش روحاني الأوّل عند نقطة دقيقة، محسوبة بميزان الذهب، بين «المحافظة» و«الإصلاح»؛ فأيّ تبدلات سوف تطرأ على ذلك التوازن، في ضبط هوامش روحاني الثاني؟
ثمة اتفاق، لدى غالبية مراقبي الشأن الداخلي الإيراني، على حقيقة كبرى ثابتة، واحدة على الأقلّ: أنّ المرشد الأعلى يريد من مؤسسة الرئاسة أن تخدم غرضين، متناقضين ومتعارضين، في آن معاً: تطوير التنمية والاقتصاد والخدمات ودغدغة بعض السخط الشعبي، وتحقيق بعض المطالب الاجتماعية والثقافية (على نحو يواصل اجتذاب شرائح الشباب والمرأة ودعاة الإصلاح)، من جهة أولى؛ وتفعيل حسّ التشكيك والسخط والاعتراض والتعطيل، ضدّ سياسات الرئاسة، لدى فئة آيات الله وحجج الإسلام وجماعة «تشخيص» مصلحة النظام (تماماً كما يشتهي «المحافظون» والمتشددون)، من جهة ثانية.
وثمة أسباب كثيرة تدعو إلى التشكيك في أنّ رئاسة روحاني الثانية سوف تكون أفضل من الأولى، على صعيد اختراق هذا التوازن تحديداً؛ وأنّ نسبة الـ 57٪، التي فاز بها منذ الجولة الأولى، سوف تتيح له أن يتجاوز حقاً إسار التحليق مديداً حول عشّ الإصلاح، دون أن يحطّ فيه، ويستقرّ ويشيد. تجربة السنوات المنصرمة تشكل مادّة أولى، دامغة، للتشكيك في أنّ السنوات المقبلة سوف تشهد نقلة جذرية، أو حتى مختلفة عن السنوات المنصرمة. وأمّا المادّة الثانية، والأهمّ ربما، فإنها التجربة الأبكر للرئيس محمد خاتمي، حيث كان الإصلاح سيّد الرهان، فانتهت سنوات التجربة إلى خسران شبه مبين أمام مؤسسة الولي الفقيه وشبكات المرشد الأعلى.
ففي عام 1997 انتخب الإيرانيون خاتمي، بأغلبية ساحقة أيضاً (بل فاضحة، بالنسبة إلى خصمه علي أكبر ناطق نوري)؛ واختار خاتمي تشكيلة وزارية بدت في حينه الأكثر تعددية و«اعتدالاً» منذ أن وطأ الإمام الخميني أرض مطار طهران عائداً من منافيه الطوال؛ وصوّت البرلمان الإيراني على منح الثقة لهذه الحكومة (ليس دون صعوبات ومقاومة ودسائس). ولقد حفلت سنوات خاتمي بالجهود الإصلاحية، وبما يشبه ثورة ثقافية حداثية؛ ولكنها حفلت أيضاً بالنقيض: تعطيل صحف، محاكمات، تصفية وزراء إصلاحيين، تضييق الخناق على فريق الرئيس، الانتصارات والانتكاسات (التكتيكية إجمالاً) على الجانبين، وصولاً إلى منع الناس من الترشيح للانتخابات.
وعلى نحو ما، يمكن القول إنّ الناخب الإيراني الذي منح روحاني هذه النسبة الساحقة منذ الدورة الأولى، لم يكن يراهن على فرصة ثانية لرجل لم يغتنم الفرصة الأولى؛ بل كان، ببساطة وحكمة عميقة، يقطع الطريق على منافسه إبراهيم رئيسي، تماماً بمعنى اختيار بلوى مجرّبة تظلّ أهون، بكثير في الواقع، من شرّ آت مستطير! وإذا صحّ هذا الافتراض، فإنه يكتسب بعداً سوسيولوجياً عميقاً حين يتذكر المرء أنّ الناخب ـ الذي تفادى رئيسي، عن طريق انتخاب روحاني ـ إنما ينتمي إلى نسبة الـ60٪ من المواطنين الإيرانيين الذين هم تحت سنّ الـ30!
وإذا جاز أنّ بعض مغزى انتصار روحاني هو هزيمة رئيسي، بما يمثله كلّ منهما في السياسة والاجتماع والعقيدة؛ فإنّ الراسخ الأعلى، بين فوز هذا واندحار ذاك، هو بقاء مؤسسة «الولي الفقيه»، بقيادة المرشد الأعلى، راسخة متينة، عليا وطاغية ومهيمنة؛ أياً كان الرئيس الذي يطيل التحليق فوق عشّ «الإصلاح»!
- نقلاً عن: القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة