* برهان غليون
شكّل المؤتمر الأميركي العربي الإسلامي في الرياض، في 21 مايو/ أيار الجاري، تحولا كبيرا في السياسة الأميركية، بالمقارنة مع السياسة التي صاغتها إدارة الرئيس باراك أوباما السابقة تجاه الشرق الأوسط. وبالنسبة لبلدان المشرق العربي، ولبلدان الخليج بشكل خاص، يشكل هذا المؤتمر حدثا غير مسبوق، نجمت عنه اتفاقات وصفقات سيكون لتنفيذها تأثير كبير على مجرى الصراعات المركّبة في المنطقة، على الرغم من أن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ منذ الآن أو يعرف حدود هذه التأثيرات، أو أن يقدر مدى التزام الأطراف بها. ولعل المهم، أو الأهم، فيها ليست القيمة الكبيرة للصفقات التجارية أو الاقتصادية التي وقعت خلالها، على الرغم من المبالغ المالية اللافتة التي وسمتها، وإنما المعاني والدلالات، أو إذا شئنا، الصفقة السياسية وراءها. وهي تتلخص، في نظري، وكما لاحظها وركز على بعضها معظم محرّري الصحافة الدولية، في ثلاثة أمور.
أولاً، استعادة الولايات المتحدة انخراطها بشكل أكبر في قضايا ومصير الشرق الأوسط والمشرق والخليج خصوصاً، بعد أن حرصت الإدارة السابقة على الانسحاب العسكري، وحتى السياسي، من المنطقة عموماً.
وثانيا، قبول الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وبشكل واضح، إضافة بند جديد إلى بنك الأهداف التي حدّدتها الإدارة السابقة أيضاً، وتمسّكت بها خلال السنوات الماضية، ولم تقبل تجاوزها، مهما كان الحال، وهو وضع حد لطموح إيران للهيمنة على المشرق هدفاً جديداً وثابتاً من أهداف السياسة الأميركية، إلى جانب هدف مكافحة الإرهاب والتطرّف المتمثل بتنظيم داعش وجبهة النصرة، وفي الأهمية نفسها تقريبا. وتنبع أهمية إضافة هذا البند هنا من أنه يضع المليشيات الممولة والموجهة من طهران على قدم المساواة مع المليشيات والمنظمات المتطرّفة “السنية”، ويعيد التذكير بالصفة الإرهابية لتنظيم دولة حزب الله اللبناني.
والأمر الثالث، غير المرئي في نظري، لكنه الأهم، إدخال إسرائيل لأول مرة شريكاً في الصراع على إعادة بناء النظام الإقليمي، بعد أن بقيت تل أبيب مرفوضةً ومعزولة فيه، من خلال الجسر الذي مثله منذ الآن الحضور الأميركي العسكري المؤهل للتنامي، من جهة، وبذريعة مصلحة إسرائيل الأمنية في مواجهة الهدفين المعلنين لهذا الحضور، محاربة الإرهاب ووقف الزحف الإيراني على المنطقة.
ما من شك أيضا في أن الرياض كانت وراء هذه الأحداث السياسية الإقليمية المهمة التي تطمح منها المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج إلى تشكيل حلف أميركي عربي إسلامي، ذكر أنه سيكون على مثال حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يضمن منذ عقود أمن أوروبا الغربية واستقرارها. وأن الرياض هي التي ستموّل، ربما مع بعض دول الخليج، تكاليف تحقيق هذه الخطة، وتمويل الحلف السياسي العسكري الجديد.
ولا شك أيضا في أن إقامة هذا الحلف سوف تشكل رافعةً مهمةً للسياسات الخليجية في المنطقة، وأن دولاً عربية عديدة مهدّدة بالاجتياحين، الإيراني والروسي، سوف تستفيد منها بشكل أو آخر، كما سيكون لها انعكاسات مهمة على مجريات الصراع في سورية التي تحولت أو حولتها الأطراف المنخرطة فيها إلى الموقد الرئيسي لنيران الحرب الإقليمية والدولية.
(2)
لكن، بعد الإشارة إلى ذلك كله هناك عدة ملاحظات، تبدو لي مهمة للعرب، لمعرفة طبيعة المسار الذي يهم معظمهم خوضه، من أجل تأمين استقرار نظمهم وأمنهم الوطني والإقليمي، وكذلك معرفة حدود الرهانات التي يضعونها على مثل هذا التحالف، وقدرته على إيجاد حلول ناجعة وسريعة للنزاعات المدمرة في المنطقة، وتطمين الحكام والشعوب معا على مصائر البلدان ومستقبل الجماعات والأفراد، خصوصا أن تحالفات عديدة سابقة كانت قد أنشئت، منذ عقود، للهدف نفسه، بما فيها مع الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، لكنها، لم تحظ بالقدر نفسه من الجدّية والبذل والإشهار، مع أنها لم تقدم أيضا أي مساعدة تذكر في مواجهة الخليج الأزمة التي يعيشها منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.
أول ما يتبادر إلى الذهن، وهذه هي الملاحظة الأولى، يتعلق بسبر حقيقة الانخراط الأميركي الجديد في المنطقة وجديته وعمقه. يبدو الأمر كما ظهر عبر ما نقلته وسائل الإعلام، وما نعرفه عن رئيس الإدارة الأميركية الجديدة، وكأنه صفقة أكثر منه خيارا سياسيا، أو تعبيرا عن خطط جيوستراتيجية جديدة أو التزاما سياسيا/ قانونيا دوليا، تقدّم من خلاله واشنطن خدماتها في نجدة دول الخليج في مقابل عقود عسكرية واقتصادية، كما لو كانت واشنطن ربّ عمل أو شركة تجارية للخدمات الأمنية عالية الكلفة والمستوى. وهذا ما يضعف من الطابع الاستراتيجي للأمر، ويدرجه في خانة الحسابات التكتيكية الرامية إلى استغلال الوضع الصعب لدول المنطقة، من أجل تحقيق مكاسب إضافية، من دون أي اهتمام حقيقي بمصير المنطقة ككل، وبنتائج الصفقة الراهنة. وهو لا يعكس بالضرورة تغييرا عميقا لحسابات السياسة الأميركية، وجوهرها الانسحاب الجيوستراتيجي من المنطقة، ووضعها في درجة ثانوية أو ثانية في سلم اهتمامات واشنطن الاستراتيجية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بطبيعة الرد العربي، والخليجي خصوصاً، على التحدّي الكبير الذي يمثله ما ينبغي اعتباره، منذ الآن، زلزال الشرق الأوسط أو المشرق، والذي لا يقتصر على تغول النظام الإيراني، وانتهاكه الأعراف الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، وتصميمه على اختراق الدول وتحطيمها من أجل فتح ممر له يطوق فيه الخليج، ويمسك ورقة المشرق العربي بأكمله في مواجهة الضغوط الغربية، ولكنه يشمل أكثر من ذلك، وفي نظري أهم من ذلك وأخطر، انفجار أزمة النظم العربية السلطوية الفاشلة والفاقدة للشرعية، ومن ورائها أزمة الدولة الحديثة التي سميت وطنيةً، وبقيت في المنطقة دولة العصابة أو العشيرة أو الحزب أو النخبة الضيقة التي تحكمها وتتحكم بها، وفقدت مع الوقت، وتفاقم العجز والفشل والفساد المادي والأخلاقي، ذروة في انعدام الشرعية والصدقية وإثارة النقمة والسخط والخذلان، من غير الممكن لها أن تستمر معها.
ويبدو لي هنا أيضا أن الأخذ بخيار تأمين الحمايات الخارجية أو التحالفات الدولية والإقليمية، وتعزيز القوات العسكرية الدفاعية ومشاركة الأميركيين فيها، وهو ليس خيارا جديدا، ولكنه الخيار القديم المستمر منذ عقود، قد جاء تجنبا للتفكير في خيارات إبداعية، كان من الممكن أن يكون في صلبها وجوهرها العمل على وضع أسس وشروط بناء القوة الذاتية، وتقديم الاعتماد على الذات، والتعاون بين الدول العربية، بدل استمرار المراهنة على الاعتماد على الخارج، وأن يتركز قسم منها على إصلاح النظم السياسية، وتأهيل الشعوب لمزيد من المشاركة والشعور بالمسؤولية تجاه مصير الدولة والبلاد، ومن ضمنها أيضا خيار مراجعة سياسات التنمية الفاشلة التي وضعت شعوب المشرق في حالةٍ من البؤس والبطالة والعطالة المتفاقمة، تهدّد إن لم تكن قد فعلت بعد، بتحويل المنطقة إلى قنبلة موقوتة، بصرف النظر عن نوعية المستغلين والمستثمرين للوضع، وهم اليوم إيران وروسيا بالدرجة الأولى. لكن يمكن أن تدخل في السباق على اقتسام كعكة المشرق المنهار، سياسيا واقتصاديا، نخب وعصائب وقوى ودول أخرى من داخل الإقليم، أو من خارجه، وللهدف نفسه، حتى لو اختلفت الوسيلة.
بالتأكيد، يبقى المسعى العربي الراهن الذي تمثل في العمل على تجميع العالم العربي والإسلامي من حول المشرق، والخليج خصوصا، مهماً وإيجابياً من دون أدنى شك، لأنه يعبر عن الإحساس العميق بالخطر والأزمة المستفحلة، ويعمل على احتوائها وإيقاف مسار التدهور والانهيار، لكن مشكلته تكمن في تجنب الحلول والخيارات الجديدة، والعودة إلى الخيارات السابقة، مع مضاعفة الرهانات على حل الحمايات الخارجية، في وقتٍ يشكل فيه فشل هذه الخيارات السبب الرئيسي للأزمة الملتهبة الراهنة. يبدو لي كما لو أن العرب اعتقدوا أن ما لم تحققه الاستثمارات القديمة في تأسيس تعاون وتحالف منتج مع واشنطن يمكن أن تحققه استثماراتٌ أكبر ومجزية أكثر، وهذا ليس أمراً مؤكداً أبدا، ما دمنا لم نخرج من المنطق القديم نفسه.
بالتأكيد، سيضمن هذا الخيار فرصة أكبر لالتقاط الانفاس عند العرب والخليج، لكنه لن يشكّل أي حلٍّ بالنسبة للمستقبل. وأخشى بالعكس أن يحصل تسكين ألم المريض على حساب البحث عن دواءٍ شاف للمرض، ويعمل بالعكس على تأجيل العلاج الناجع. وبالتالي، على تفاقمه، فمما لا شك فيه أن إيران هي السبب الرئيسي في تقويض أسس استقرار المنطقة، وتهديد أمنها وتفكيك دولها، بسبب طمعها في أن تتحول إلى أمبرطورية، أي إمبريالية إقليمية مهيمنة تستفيد من عوائد الهيمنة وريعها، لتحسين موقفها وموقعها الدوليين، لكن إيران ليست السبب في إحداث المشكلة. وما كان في وسع طهران، ولا غيرها، أن تعبث بالأمن والاستقرار والتماسك الوطني لشعوب المنطقة العربية، لو لم تجد في هذه الشعوب والبلدان عوامل التفسخ والفساد والضعف وعجز النخب عن إدارة شؤون مجتمعاتها وحكمها وقيادتها بطريقة ناجعة. وإزاحة إيران من ساحة المسابقة على اقتسام جسد المشرق العربي لا يعني شفاء هذا الجسد، ولا ضمان أن يعود أمره إليه وحده، وإنما ربما حلول من هو أقوى منها محلها في تقويض المشرق العربي من الداخل، واستخدام نقاط ضعفه وانقساماته وفساد نظمه ونخبه من أجل ابتلاعه وتحويله إلى قطع غيار في مشاريع تتجاوزه، وتقوم على حساب مصالح شعوبه، وقدرته على إقامة أي شكل من أشكال الدولة أو المجتمع المتفاهم والمنظم والفعال.
هنا بيت القصيد.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة