* حمزة المصطفى
بعد إخفاقات متكرّرة واجهت مسار أستانة التفاوضي، منذ سيطرة النظام السوري على مدينة حلب أواخر العام الماضي، توصلت الدولتان الراعيتان لهذا المسار (تركيا وروسيا)، بالاشتراك مع إيران، إلى اتفاق آخر تحت مسمّى جديد “تخفيف التصعيد”، يقضي بإنشاء “مناطق آمنة” محدودة النطاق، تشمل مساحات الاشتباك اليومي بين النظام والمعارضة المسلحة في عدد من المحافظات السورية. وإذا ما تجاوزنا مسار الاتفاق ومصيره المستقبلي، فإن الأخير حمل في طيات بنوده لغةً خطابيّةً غير مألوفة روسيًا أو إيرانيًا.
دأب الخطاب الرسمي التركيّ، منذ تدفق أولى موجات اللاجئين السوريين إلى تركيا أواخر عام 2011، على المطالبة بإقامة منطقةٍ آمنة على الحدود السوريّة التركيّة، من دون أن يجد آذانا صاغية لدى إدارة باراك أوباما التي نأت بنفسها، آنذاك، عن الانخراط العسكري المباشر في سورية، بغض النظر عن أشكاله ومسمياته. أكثر منذ ذلك، تحولت سوريّة إلى “منطقة آمنة” لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، بعد اعتماد الغرب فرعه السوريّ “حزب الاتحاد الديمقراطيّ” شريكًا رئيسيًا في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، قبل أن تتخلى الحكومة التركية عن مقاربتها القديمة تجاه الأزمة السوريّة لصالح خياراتٍ عسكريةٍ ودبلوماسية “أكثر تدخلية”.
من هنا، لم يقتحم مصطلح “المنطقة الآمنة” الخطاب الرسمي الأميركي، إلا بعد أفول عهد أوباما، خصوصا بعد فشل الأخير في تطبيق اتفاق “وقف الأعمال العدائية” في سورية، بسبب تحفظ وزارة الدفاع (البنتاغون) على بند التنسيق العسكريّ، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع روسيا. ومع أن مصطلح (وخيار) “المناطق الآمنة” تردّد في الحملات الانتخابية لكل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، فإنه ظل غامضًا في ماهيته وكيفية تطبيقه وأهدافه. وبينما نظرت هيلاري كلينتون إلى هذا الخيار باعتباره أداة ضغط محتملة على النظام السوري، بغرض دفعه إلى “تغيير حساباته” وقبول الحل السياسيّ، رأى فيه ترامب وصفةً سحريّة ذات أهدافٍ وظيفيةٍ محدودة، تتجلى في إيقاف تدفق اللاجئين السوريين إلى الخارج، وخصوصاً الولايات المتحدة.
في ضوء ذلك، استقبلت روسيا وصول ترامب إلى البيت الأبيض بارتياحٍ كبير، وأضحت بداية عهده اللاعب الوحيد والقادر على توجيه الصراع السوري نحو مخرجاتٍ تتوافق مع رؤيتها القائمة على الحفاظ على بنى النظام القائم وشخصياته، مع تجميله دستوريًا وانتخابيًا وإجبار المعارضة على الانخراط فيه، أو مواجهة خيار “الإبادة” الشاملة. ويمكن، ضمن هذا السياق، فهم اندفاع النظام السوري، بإيعازٍ روسيٍّ، إلى استخدام السلاح الكيماوي على نطاق واسع مجددًا في خان شيخون مطلع إبريل/ نيسان الماضي، من دون أن يعبأ بالمخاطر المحتملة عليه، فالهجوم الكيماوي كان سيوفر فرصًا كبيرة لجهة زرع خوف مستطيرٍ داخل المجتمعات المحليّة في إدلب، بما يدفعها إلى الانقلاب، أو نبذ الفصائل المسلحة في استنساخٍ لتجربته الوحشية “الناجحة” في حلب، لكن النظام السوري وموسكو اللذين نظرا إلى تصريحاتٍ سابقةٍ لترامب عن عدم جدوى مطالبة الأسد بالرحيل بأنها إطلاق يد كامل في سورية أخطآ الحسابات والتقدير هذه المرّة. وبخلاف أوباما، لم ينتظر ترامب موافقة الكونغرس، ولم يسع إلى صفقات مع روسيا، حتى أقدم على رد عسكريّ محدود، استهدف قاعدة الشعيرات الجوية في ريف حمص.
وقد ساهمت الضربة العسكرية الأميركية “التأديبية” للنظام السوريّ في “تأديب” حلفائه أيضًا، ودفعتهم إلى مراجعة خياراتهم، أو مراجعة أدواتهم في تحقيق هذه الخيارات، ولا سيما بعد اختلاف نبرة الخطاب الأميركي تجاه النظام السوريّ، مع التلويح بمعاقبته، في حال استخدام الكيماوي أو البراميل المتفجرة. وبكلماتٍ أخرى، أدركت روسيا استحالة الاستمرار في مقاربتها العسكرية السابقة، من دون وقوع مجازر كبيرة قد تدفع ترامب، بحكم شخصيته المتقلبة، إلى خياراتٍ أخرى أكثر تدخليةً في سوريّة. كما تنبهت مجددًا إلى “محدودية” قدرتها وقوتها مقارنةً بالولايات المتحدة، وعجزها عن المضي في خطٍّ “صدامي” مع إدارة ترامب في سوريّة، على الأقل في المدى المنظور، ولا سيما أن الضربة التأديبية للنظام كانت نقطة الإجماع الوحيد في الولايات المتحدة على سياسات الرئيس الجديد خلال المائة يوم الأولى من حكمه. ضمن هذا السياق، نهجت روسيا، خلال الشهر الماضي، سلوكًا عسكريًا مختلفًا، حيث خفضت طلعاتها الجويّة “الهجوميّة”، وقلصت من استهدافها المدنيين ومرافقهم. وينطبق الأمر نفسه على النظام السوري تقريبًا، على الرغم من اضطلاعه حاليًا بمهام عسكريّة أكبر. لكن، مع حذرٍ شديدٍ في ما يتعلق بنوعية السلاح المستخدم وعدد الضحايا.
بانتفاء قدرتها على فرض حل عسكري مستدام، بدأت موسكو تبني مقاربةٍ مختلفةٍ في مسعى إلى الالتقاء مع الولايات المتحدة، والتنسيق معها عسكريًا واستخباراتيًا في سورية، وكذلك تشجيع تركيا على الاستمرار في تبني مسار أستانة، بعد نزوع الأخيرة إلى خفض تمثيلها واهتمامها فيه بعد الضربة الأميركية، واندفاعها إلى خطواتٍ انفراديةٍ جريئةٍ بقصف مناطق نفوذ الاتحاد الديمقراطي شرق نهر الفرات وغربه. وما قد يعطي للمقاربة الروسية أعلاه صفة “الجدّة” هو إشراكها إيران، بشكل صريح وعلني، في رعاية الاتفاق، بما يجعلها مسؤولةً عنه، في تطوّر عن نهجها التفاوضي السابق الذي حاولت موسكو، من خلاله، إيهام القوى الإقليمية والدولية بوجود خلافٍ أو بون شاسع بينها وبين إيران في سورية.
من المحتمل أن يكون اتفاق “تخفيف التصعيد” خطوةً تكتيكيةً روسيةً لاستجلاء حقيقة توجهات الإدارة الأميركية الجديدة تجاه سورية، أو نهجا احتوائيا للانتقادات الدولية والحقوقية المتزايدة لدورها في سوريّة التي وصلت إلى حد اتهامها بالمشاركة أو التنسيق مع النظام في استخدام السلاح الكيماوي، لكن المؤكد هو إدراك روسيا، بعد نحو عامين من تدخلها العسكري المباشر، عجزها عن فرض إرادتها في سورية، ما اضطرّها، في الراهن، إلى البحث عن نقاط التقاء مع الآخرين، وهو ما سوف يدفعها إلى تبني مقاربةٍ جديدة في المستقبل.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة