* فاطمة ياسين
كانت وضعية وقف إطلاق النار في سورية سائدة في أثناء مؤتمر أستانة الماضي، وهو الطعم الذي قدمه الروس بداية الاجتماع. جهد الجانب الروسي على تعويم هذا المصطلح، وتعميميه على وسائل الإعلام، وتضخيم مفرداته لتصبح مرادفة لمؤتمر “الحل” وملاصقةً له، وقد ترافق مع تخفيفٍ حقيقيّ في حدة القصف، وتقليصٍ مؤقت لطلعات الطيران، لإحداث مناخٍ واقعي لحالة وقف إطلاق النار. تلاشى ذلك كله بالتدريج، ليستيقظ العالم على هجمات من الحلف الأسدي بالسلاح الكيميائي، من دون أن يصدر أي إعلانٍ بأن حالة وقف إطلاق النار توقفت! بعد انفضاض الاجتماع، عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وعادت عمليات الكر والفر والتقدّم والتراجع مع ثباتٍ لحالات الهجوم بالبراميل من السماء. الآن، في نسخة أستانة أخيرا، وقد تبدّدت تداعيات غيمة السارين المسمومة، يجري التسويق، بقوةٍ، لحالةٍ أخرى من حالات الهدنة، سمّيت وقف التصعيد، وهي تسميةٌ تسويقيةٌ لوقف إطلاق النار.
يبدو الأمر، هذه المرة، مرسوماً من تحت طاولة الأمم المتحدة، وإن لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن الصورة، فوقعت الدول الثلاث الضامنة هذا الاتفاق، وساد ما يشبه الهدوء في بضع نقاط للتماس، مع تعالي أصواتٍ معترضةٍ ومتخوفةٍ من أن يكون هذا العنوان مقدمةً تقسيمية كبرى.
قد يكون ترويج فكرة التقسيم صاروخ اختبار، لا سيما أن الخرائط النهائية، كما تنص وقائع الاتفاق، سيتم التوافق عليها خلال شهر. ولكن، في الخطوط العريضة، يجري الحديث عن أربع مناطق كبرى، هي شريحة طولانية، تتضمن خطاً يصل بين حماه وحمص ودمشق ودرعا، وتشمل اللاذقية تحصيلاً لحاصل. لا تأتي الوثيقة على ذكر الشمال، وتستثني عن قصد الرّقة ومناطق “روجافا”، وتدير ظهرها لكامل حوض الفرات الأعلى والأدنى، مبقيةً على سورية التي يعرّفها الإعلام بسورية المفيدة، والتي يظهرها الاتفاق منطقةً متجانسةً، لكنها مبقعةٌ بكثير من القطاعات المعارضة المحاطة بالنظام. يبدو الاتفاق، للوهلة الأولى، حالة تجميد للوضع الراهن، ويخفي، في ثناياه، مصير الأسد، بل يتعامل معه ندّاً صالحاً، ويرفع من وضعية إيران من غازٍ أو مستعمر إلى دور الضامن، في تبرئةٍ مقصودة لكل ما تم ارتكابه حتى الآن.
الحالة الإنسانية المزرية التي أحدثها النظام في كامل سورية، والحالة الإرهابية التي راجت في المنطقة بوجودٍ قويٍّ ومؤثر لتنظيم الدولة الإسلامية، ونتيجة سلوكيات النظام العنيفة، نقطتان مثيرتان وحلحلتهما أمر عاجل، بل يجب أن يكونا عنواناً لجوهر الاتفاق. وتكريس اجتماعات أستانة يراكم حالةً من تجنب الخوض في موضوع ثورة الشعب على نظامٍ لا يكفي وصفه مستبدّا، لصالح المعالجات الإنسانية ومكافحة الإرهاب. وبين هاتين النقطتين، يلهث النظام، وكل من يسانده في التهام مزيد من الأراضي، فلم يُعقد أستانة الأول قبل أن يبتلع النظام حلب، وعقد أستانة الحالي والحافلات الخضراء تنقل أهالي الوعر ومضايا إلى أماكن بعيدة، مع استمرار حصار أجزاء من أطراف دمشق، ومحاولات النظام التقدّم في ريف حماة.
المناطق الشاسعة من سورية خارج اتفاقات خفض التصعيد، وتنتظر هجوماً وشيكاً سواء في الرّقة أو دير الزور، وهي مناطق مؤهلة ومرشحة لتوليد مزيد من النازحين، وكذلك يصمت الاتفاق عن الإقليم الجديد المثير للجدل، والمسمى “روجافا”، في ظل الامتناع التركي، والدعمين، الأميركي والروسي، وتواطؤ نظام الأسد مع الحالة القائمة.
تحقيق هدوء شامل هو رجاء سوري عام وخالص وحقيقي، وهو ما تتحدّث عنه وثيقة وقف التصعيد في بندها الأول، ومكافحة التنظيمات الإرهابية العنيفة حاجةٌ ملحة. ولكن، ما هو الثمن المسفوح لقاء الحصول على هذه الأمنية، وقد تعوّدنا على أن لكل الأشياء مقابلاً مطلوباً؟.. والمقابل هنا هو مخاطرة جغرافية كبيرة، وبالذات على حساب سورية الداخلية، بفراتيها الأعلى والأدنى، وتغاض آخر عن النظام الذي كان وراء كارثية المشهد الحالي، وتحويل دولة إيران المتحرّشة بالإقليم إلى مجرّد ضامن.
- نقلاً عن: العربي الجديد
Sorry Comments are closed