* فاطمة ياسين
تمتلئ الصحف العالمية، هذه الأيام، بتقييم أداء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعد مائة يوم في البيت الأبيض، وهو تقليدٌ دأبت عليه الصحافة منذ عهد الرئيس تيودور روزفلت، بعد حدوث الركود العالمي في بدايات القرن الماضي. وتكاد أخبار المائة يوم الخاصة بترامب تغطي على الحملة الفرنسية لانتخابات الرئاسة ومناوشاتها اليمينية، وعلى أخبار الدوري الإسباني ونتائج الفرق الكبيرة فيه، فقد تحوّل ترامب، بشكلٍ يناسب ميلودراميات سوفوكليس، من وعوده الانتخابية التي ليس فيها إلا الشعار الكبير “أميركا أولاً”، إلى انفتاحٍ سياسي عالمي.
وقد تكون الصواريخ التسعة والخمسون التي أطلقها على مطار الشعيرات الحدث الأبرز في طريقة تحوله وتغيرات التعاطي الدولي التي بدأت معها. ولعله بهذا السلوك قد اكتشف للتو أنه أصبح رئيس الولايات المتحدة، وليس مجرد رجل أعمال تحرّكه أرقام البورصة، ليبدي ردة فعل تكتيكية ذات أجل قصير، تؤمن له ربحاً سريعاً وآنياً. حان موعد التحرّك الاستراتيجي الكبير، وقد تكون ملاحظة الرئيس الأميركي الأسبق، جيرالد فورد، في محلها، عندما لاحظ يوماً أن الحياة من داخل المكتب البيضاوي تبدو مختلفة.
رفض ترامب، عندما كان مرشحاً، فكرة مهاجمة بشار الأسد، وفضَّل أن يركّز في حملته على تنظيم الدولة الإسلامية، وأعطى أولوية صريحة لقتالها، حينما قال إن الأسد وروسيا يقاتلان “داعش”، ولا حاجة الآن للمواجهة على جبهتين (تنظيم الدولة الإسلامية والأسد). تكرّرت مثل هذه التصريحات في أكثر من مناسبة، فوصف قتال التنظيم والأسد معاً بالتهويل والجنون، وقال “لا نستطيع أن نفعل إلا أمراً واحداً في وقت واحد”. كان واضحاً أنه يرغب في مواجهة “داعش” فقط، وهي مواجهة ذات تكتيك انتخابي، أمَّن له حضوراً إيجابياً في الشارع، أما التصريح الذي يجب أن نقف عنده قليلاً فهو قوله “لا نستطيع مقاتلة الأسد، لأننا عندما نقاتله فإننا نقاتل روسيا”، معتبراً روسيا والأسد شيئاً واحداً. تسرب الكثير عن رغبة ترامب المرشح في التقارب مع روسيا، وكان يكيل المديح لرئيسها فلاديمير بوتين، ولا يخفي إعجاباً به، وقد صرّح مراراً عن وجود خطة “عظيمة” لديه لمواجهة داعش، وعندما سئل عن هذه الخطة رفض التوضيح. والآن عرفنا بأنه لم يكن يملك أية خطة، لأنه أوعز لوزارة الدفاع (البنتاغون) بتجهيز هذه الخطة بعد أن تسلم منصب الرئاسة.
قرأ النظام السوري وحلفاؤه رسالة ترامب بعدم أولوية إزاحة الأسد بشكل خاطئ، ونفّذوا هجومهم الكيميائي، حينها شعر قاطن المكتب البيضاوي بحرج اللحظة، وأحسّ، بوصفه مقيماً في هذا المكتب، بأن عليه أن يفعل شيئاً، فتخلى عن خطط التكتيك الديبلوماسي التي كانت عنوان فترة ترشّحه، وقرّر أن ينتقل لتنفيذ استراتيجيا تعبر عن أميركا كلها، فنفذ غارات التوماهوك.
أدرك ترامب وفريقُه الإداري أن “داعش” نزوة متطرّفة وفقاعة إرهابية، يمكن التعامل معها في الوقت نفسه الذي يمكن فيه التعامل مع الأسد، لأن الجهتين تمثلان شكلاً إرهابياً مجنوناً، وقتال كلا الطرفين لا يعني الحرب على جبهتين، بل هي حرب واحدة، نتيجتها واحدة، ولا يمكن خوضها إلا مرة واحدة. وبناءً على هذا الاستنتاج، كان يجدر بترامب أن يتنازل عن أحلامه بربيع مزدهر مع بوتين.
أظهرت المائة يوم الأولى النيات، ويمكن أن نقرأ من خلالها عدم موافقة أميركا على التفرّد الروسي في سورية، خصوصاً أن إيران تفرد عضلاتها أيضاً، وهي قريبةٌ من النفوذ الروسي، وبدأ ترامب يستيقظ من أحلام رجل الأعمال، وهو الآن يعيد رصف أحجار الرقعة، مع ظهور الصور الأولى التي تكشف عن وجود مدرّعاتٍ تحمل علماً أميركياً في القامشلي. ووجود المدرعات يختلف عن وجود الخبراء، لأن مهمة المدرعة شق طريق بري ثابت وسط الأعداء. لم تكن المائة يوم الأولى مثمرة على الجانب السوري.
ولكن، بعدها سيبقى ترامب رئيساً، وعليه أن يكمل طريق الاستراتيجيا التي بدأها، فأرباحُ التكتيك القصير سرعان ما تتلاشى.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة