* عمر إدلبي
كما لو أنني ذاهب إلى حتفي، أمضيت الليل في تنسيق ملفات معلومات مهمة وسرية موجودة على جهاز الكومبيوتر الخاص بي، معظم هذه الملفات يتضمن تفاصيل عن أنشطة معارضة للنظام خلال السنوات السابقة، وإلى جانب المسائل العامة تركت لعائلتي ما يتوفر لدي من أوراق وثبوتيات رسمية.
كان لدي يقين كامل أن يوم 15 آذار سيكون آخر يوم لدي خارج قضبان المعتقل، ولأنني هذه المرة أمضي إليه مختاراً وبكامل إرادتي ودون إكراه، وبالتوقيت الذي أختاره أنا لا أجهزة الأمن، فقد تمكنت من القيام بكل ما خطر في بالي من تحضيرات لغياب طويل عن الحياة.
في كل المرات التي اعتقلتني بها قوات الأمن قبل الثورة كانت أجهزة الأمن تداهم منزلي أو مكان عملي وتعتقلني فجأة، وفي الطريق إلى المعتقل كنت أقول في نفسي: لو أني فعلت كذا، وليتني رتبت الأمر الفلاني، وليتني قمت بالاحتياطات اللازمة قبل اعتقالي، ولكن.. هذه المرة رتبت كل شيء، ووضعت تصورات عن كل الاحتمالات.
بدأت خيوط شمس صباح 15 آذار تتسلل إلى زهرات الياسمين المطلة على نافذة غرفتي من حديقة منزلي، وبدأت معها ضربات قلبي تزداد اضطراباً، وفجراً عند الخامسة، عانقت ولدي نوار على باب بيتنا الخارجي عناقاً طويلاً، ودعوت الله أن لا يكون هذا العناق آخر لقاء لي به، ومضيت إلى الشارع حيث كان بانتظاري الناشط المعتقل حاليا “عبد الكريم ص”، كان مبتسماً ويرتجف، رغم أن الجو ليس بارداً إلى هذه الدرجة، وأمام باب محطة الحافلات على طريق حماة، كان الناشط بدوي المغربل “أبو جعفر” ينتظرنا، كان كل واحد منا يتحرك بمفرده، رغبة بمزيد من الحرص الأمني، ومضت بنا الحافلة على دمشق.. حيث ينتظرنا المجهول الفاتن.
طريق حمص – دمشق الدولي بدا طويلاً جداً، كان ينتهي عادة بساعتين، لكنه هذه المرة احتاج مئة وعشرين دقيقة، كل دقيقة منها عصفت بي كأنها دهرٌ من الرياح، والمخاوف والقلق والانتظار، والأمل.
في الطريق من محطة الحافلات في حرستا باتجاه وسط العاصمة، توزعت سيارات دوريات الأمن بشكل مكثف على المفارق وفي الساحات العامة، وبدت أعدادها أكبر مما توقعنا في منطقة الوسط التجاري ولا سيما في محيط ساحة المرجة، حيث التقيت في الساعة 12 ظهراً بالناشط الشاعر عمر سليمان الذي انتظرني منذ الصباح في حديقة السوق العتيق.
كنا مرتبكين أصلاً، وازداد ارتباكنا بعد اعتذار مجموعة الناشطين الكرد “الطلابية” التي نسقنا معها للتظاهر ظهراً أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي قرب باب سوق الحميدية الشهير، قرارهم الجديد كان نقل مظاهرتهم إلى ساحة الأمويين مساء في حال خرجت مظاهرات الظهر، ويبدو أن نصيحة “أو ربما قرارات” وصلت لهؤلاء الناشطين من سياسيين معارضين كرد تدعوهم للتريث وعدم المغامرة في المشاركة باحتجاجات في الشارع ما لم تدخل المعارضة السورية بكل ثقلها في المظاهرات.
إحباط كبير عشناه ونحن نفكر بعددنا القليل الذي كان بالفعل بعدد أصابع اليد الواحدة، كنا نتفحص وجوه القادمين من كل اتجاه لعل فيها وجهاً لحر آخر من الأحرار الذين أبلغونا بمشاركتهم.. وقرر المشاركة فعلاً.. لكن وباستثناء شخصين آخرين انضما إلينا، لم نصل إلى عدد أصابع يدين اثنتين، فيما كنت أشاهد وأحصي العدد الكبير والمخيف لسيارات وحافلات قوات الأمن التي تتوزع في شارع قلعة دمشق، والعصرونية، وشارع مدحت باشا، ويتواصل قدوم حافلات أمن جديدة يترجل منها العناصر أمام جامع درويش باشا في القنوات.
لحظات ثقيلة كان تمر علينا، أحسست معها أن المظاهرة لن تحصل، لكن اتصالين مهمين تلقيتهما زادا إصراري على المغامرة.
في الواحدة ظهراً اتصلت الشاعرة والناشطة السورية الكردية آخين ولات المقيمة في السويد، لتسألني: الثورة انطلقت؟ بكيت بحرقة وأنا أرد عليها: لا أحد هنا إلا أنا و5 مجانين آخرين مثلي وعناصر المخابرات.
أغلقت الهاتف وابتعدت عن الشباب متجهاً إلى شارع النوفرة خلف الجامع الأموي.
أردت أن أبقى وحيداً لكن آخين عاودت الاتصال، لتقول: “ما دام هناك خمسة أحرار ستنطلق الثورة، إياك واليأس”.
ولم تمر إلا دقائق حتى جاء الاتصال الثاني من الشاعر السوري الكردي أيضاً مروان خورشيد المقيم في السعودية، قلت له: لا يكفي عددنا إلا للهرب، لا للتظاهر.
ضحك مروان طويلاً.. ثم قال لي بجدية: لو كنت في دمشق الآن لخرجت متظاهراً، وحدي، ولكنت استمتعت بمشاكسة عناصر الأمن، وحدي، وبالهرب وحدي، وبالحرية وحدي.
عدت إلى الساحة الغربية أمام باب الجامع الأموي، مدفوعاً بشحنة إصرار، كان الناشط عمر سليمان يحمل كيس حلوى ملونة “راحة بسكر”، ويوزع بعض القطع على عناصر أمن سريين، كان يتعمد ذلك لينبهنا إلى هؤلاء المخبرين، و”أبو جعفر المغربل” يذرع الساحة جيئة وذهاباً بتوتر وقلق، ويحاول الإيحاء أنه يشغل نفسه بطيور الحمام المنتشرة بكثرة في الساحة، و”عبد الكريم ص” يتشاغل بمطالعة عناوين الكتب على بسطات الكتب في أول مدخل الساحة القريب من شارع الحميدية، أما الشابان الآخران فلم أكن أراهما حولي، لكن عبد الكريم أشار لي أنهما قريبان منه.
الساعة تشير إلى الواحدة والأربعين دقيقة ظهراً.. كانت عيون الشباب تتبادل السؤال الأهم: هل ننطلق؟ وتجيب بحسم وإصرار: الآن.
“الله.. سوريا.. حرية وبس”.. صرخ الجميع في وقت واحد، ومضوا من أمام الباب الغربي للجامع الأموي باتجاه بداية سوق الحميدية، كنت وسطهم، أسير بلا قدمين، أشعر بخدر لذيذ يسري في كامل أنحاء جسدي، وحده صوتي كان عالياً وشاهقاً وبكامل يقظته ووعيه وأنا أهتف للحرية وسوريا.. فقط.
لحظات مرت دون أن أفكر بعناصر الأمن من حولنا، كانت نشوة الهتاف للحرية في الهواء الطلق على مرأى الناس أعمق أثراً مما تخيلت.. دموع غزيرة تمتزج بحبات العرق على وجهي، الجو دافئ وأتصبب عرقاً بغزارة مفاجئة، لكنني أشعر بالبرد وترتجف أطرافي فلا أستطيع ضبطها.
وصلنا حتى أول مدخل سوق “المسكيّة” أدركت وقتها أننا مطوقون بعشرات من عناصر الأمن، بدأوا بالهتاف لبشار الأسد، ومحاصرتنا أكثر فأكثر ودفعنا بعيداً عن شارع الحميدية وإجبارنا على الدخول في سوق المسكية.
مع هتافهم لبشار صرنا نرفع صوتنا في الهتاف للحرية وسوريا بأكثر ما أوتينا من صوت قوي، لكن أعدادهم الكبيرة كانت تزداد وصوتهم يغدو أعلى شيئاً فشيئاً، ومع وصولنا إلى منتصف سوق المسكيّة انهالوا علينا بالضرب، وفيما كنا نتلقى اللكمات والركلات والضرب بعصي بلاستيكية، بدأت تتعالى أصوات قريبة، كانت تهتف للحرية أيضاً.. كنا نسمعها كما لو أنها من صنع الخيال أو الأمل، لكنها كانت حقيقية تماماً، دفعت عناصر الأمن للتراكض نحوها وبقي حولنا عدد من عناصر الشرطة، ما أتاح لي فرصة معرفة ما حصل للشباب الذين كنت معهم، كان عمر سليمان قريبا جدا مني، وأبو جعفر المغربل يتفلت من شرطي ويدخل أحد محلات بيع اللوازم المكتبية، وعبد الكريم يهرب بعيداً برفقة الشابين الذين كانا معه، أفلتني عنصر الشرطة الذي كان يمسكني، وانطلق راكضاً باتجاه صوت المتظاهرين، فانطلقنا أنا وعمر سليمان وراءه، كان صوت المتظاهرين واضحاً، يهتفون بمثل هتافنا: الله سوريا حرية وبس، وهتاف آخر: وينك يا سوري وينك.
… يتبع
عذراً التعليقات مغلقة