* غازي دحمان
ليست مجرد ضربة نزقة ومحدّدة الأهداف تلك التي نفذتها أميركا ضد مطار الشعيرات، بل هي إعلان بالنار عن تغيّر قواعد اللعبة في سورية، كما هي إعلان عن عودة أميركا إلى دور اللاعب أساسي في الأزمة السورية.
كان لافتاً الموقف الصامت الذي اتخذه الطرف الأميركي في مفاوضات جنيف الأخيرة، وقد مثّل رسالة واضحة بأن أميركا لا يمكن ان تكون شريكاً هامشياً وهي لن تقبل دوام الوضع على هذه الشاكلة، كما لن تقبل أن تمنّ عليها روسيا بدور صغير، وكان القرار أن من الأفضل الانتظار حتى صياغة الرد المطلوب وحجز الدور واستعادة المكانة بأدوات أميركية من صنع أميركا نفسها.
تحرير شرق سورية من «داعش» وتثبيت وجود أميركي في تلك المنطقة كانا الطريق الأفضل لصناعة حيثية أميركية توازن الوجود الروسي في سورية، وقد عملت واشنطن بصمت ولكن في شكل حثيث من أجل تسريع وتيرة هذا التغير وإنضاجه ليصار إلى وضعه في سوق البازار التفاوضي مع روسيا التي أدركت حقيقة الموقف الأميركي وسارعت إلى إنجاز تسوية سورية، بالترغيب أو الترهيب، لإحراق أوراق أميركا ودفعها إلى الإحباط وعدم إنجاز سياق جديد للأوضاع في سورية.
في هذا الإطار، وفي ظل ردود الفعل الروسية المتوترة والمتسرعة، جاءت تصرفاتها الأخيرة، ومنها مجزرة الكيماوي الأخيرة في خان شيخون، وذلك بهدف اختبار مدى جدية الإدارة الأميركية، أو لدفعها إلى تسريع تفاهماتها في سورية من طريق إحداث صدمة غير متوقعة واستكمالاً للنهج الذي اتبعه الرئيس الروسي بوتين في سياق ترويجه لنظرية «الرجل المجنون» في موسكو والقادر على شل حركة خصومه وإرباكهم وتقليل خياراتهم إلى أقصى درجة.
غير أن إدارة ترامب رأت في التصعيد الجديد لروسيا ووكلائها، فرصة لتحويل الأخطار إلى فرص وعكس اتجاهات التداعيات وإعادتها إلى الجهة التي أصدرتها، من خلال قبول التحدي وتقويضه ومن ثم تحويله إلى أزمة لدى الطرف الآخر، ودفعه إلى إعادة صيغ التفاوض وقواعد اللعبة وقواعد الاشتباك.
لقد وضعت الضربة الأميركية لمطار الشعيرات جملة من القواعد ستصبح بديهيات في الواقع السوري، تماماً كما أن الوجود الروسي في سورية أصبح خارج أي نقاش، ومن هذه القواعد:
1 – التأسيس لقاعدة استهداف نظام الأسد كلّما رأت أميركا انه تصرّف بطريقة قد تعتبرها واشنطن تجاوزاً للخطوط الحمر، وأول تلك التصرفات ستكون مسألة إستخدام الكيماوي، التي أصبحت جزءاً أساسياً من منظومة أدواته القتالية، يستخدمها كلّما أراد تحقيق مكاسب ميدانية على حساب معارضيه، وهذه القاعدة قابلة للتوسّع باعتبار أن الخطاب الأميركي برّر ضرباته لمطار الشعيرات بأنها تأتي في سياق الدفاع عن الحياة البشرية التي ينتهكها نظام الأسد، بمعنى انها قد تشمل حظر طيران الأسد في شكل نهائي.
2- انتهاء حصانة نظام الأسد احتراماً أو خوفاً من الاصطدام بروسيا، وعلى روسيا أن تتكيف مع هذا الأمر، فأميركا، مثل إسرائيل، تعتبر أن المظلّة الروسية تقتصر على أمن قواعدها في الساحل السوري، أما بقية الجغرافية السورية فهي تقع خارج هذه المظلة، وطالما أن إيران ونظام الأسد يرتكبان في هذه المناطق ما يهدّد الأمن والسلم في المنطقة والإقليم فإن هذه المناطق ستبقى خاضعة للمراقبة والمتابعة والاستهداف، وهذا الأمر يدخل في صلب مصالح أميركا وإسرائيل ويشكل جزءاً من أمنهما القومي الذي يفرض إحترامه على اللاعبين الأخرين.
3- وضع العملية السياسية في سورية على سكة الحسم وبأسرع وقت ممكن، وإنتهاء الاحتكار الروسي، وقد كانت واضحة وصريحة لهجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخطاب الذي أعقب ضرب مطار الشعيرات، ودعوته الدول المتحضّرة إلى إبجاد حل للأزمة السورية.
عندما تضع الدول استراتيجاتها السياسية والعسكرية، غالباً ما يتم وضع هامش للخطأ تسببه التطورات غير المتوقعة والأشخاص غير العقلانيين، ولا بد أن روسيا التي وضعت استراتيجية محكمة تجاه سورية واعتقد البعض أنها غير قابلة للاختراق والتعديل تواجه اليوم متغيرات لم تكن محسوبة، كما أن أميركا كانت تحتاج لمثل هذه الفرصة لتعود بقوّة إلى صلب السياسات الشرق أوسطية. والمرجّح أن تشهد الفترة المقبلة مساومات بين روسيا واميركا تبدأ بمحاولة استكشاف الخواصر الأضعف لإدراج التحولات الجديدة ضمن الواقع السوري الجديد.
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة