فيلم «ذاكرة باللون الخاكي»… مرآة الزمن السوري

فريق التحرير12 مارس 2017آخر تحديث :

* آية أتاسي

يبدأ الفيلم لمخرجه السوري الفوز طنجور بطفل يرتدي الخاكي يلتقط بجسده المطر التي تتلون قطراته بالأحمر، ما أن تلامس البدلة العسكرية، ثم نسمع دوي رصاصة وتتوالى الأحداث وكأنها لوحة سينمائية ملونة بالخاكي والأحمر.
مع الخاكي نعود كسوريين إلى ذاكرتنا المدبوغة بالاستبداد العسكري، وإلى اللون الذي اختطف طفولتنا وجعلنا أبناء غير شرعيين للون الواحد والحزب الواحد.
أما الأحمر فهو نقيض الخاكي ورمز الانعتاق منه، ولطالما استحضره المخرج الفوز طنجور في أفلامه السابقة، فكان حاضراً في السيارة الحمراء في فيلم «شمس صغيرة»، وفي فيلم «نهاية بالون أحمر»، ليعاود الظهور مجدداً في فيلمه الحالي كرمز للثورة السورية مع البالون الأحمر والورود الحمراء التي حملها المتظاهرون السلميون، أو محاكياً الحرية في كنزة الطفل الذي يركض هارباً من السترة العسكرية المعلقة وكأنها «الذاكرة باللون الخاكي»، ذاكرة جيل القمع الأسدي. وكما يقول الراوي/المخرج طنجور في الفيلم: «في أوروبا بدأت الهروب إلى ذاكرتي، التي تركتها أمام البيت بصور هشة معطوبة بلون الخاكي». وفي مسار البحث عن ذاكرته تلك يجمع طنجور نتف الحكايات والآلام من ذاكرة الأصدقاء، وهم أربع شخصيات تظهر تباعاً في الفيلم وتتداخل حكاياتها، لنعثر كسوريين في نهاية الفيلم على ذاكرتنا أيضاً وهذه الشخصيات هي:
إبراهيم صموئيل (بين قسوة السجن وهوى الشام):
«أنا وإبراهيم والشام أصدقاء»… هكذا يعرف المخرج طنجور بصديقيه الكاتب «إبراهيم صموئيل» ومدينة «دمشق» المشتهاة والمكروهة في آن، حيث كان كتاب صموئيل «رائحة الخطو الثقيل» رفيق طنجور في رحلته لدراسة السينما في مولدافيا، وكأنه كان يحدس بأن سينماه ستتقاطع مع الكاتب ومدينته يوماً. يظهر إبراهيم في البداية في لقطة تعود إلى عام 2009 وهو يطل على دمشق، وحيث الحلم لم يكن يتعدى الماء والكهرباء بلا انقطاع، وعندما تعود الكاميرا إليه في عمان عام 2016 يبدو وقد هرم قليلاً بعد خمس سنوات على اندلاع الثورة وخروجه من دمشق، من غير أن تخرج المدينة من دمه المركب من حجارتها وياسمين بيوتها، بل حتى رائحة المازوت فيها، كما يقول. ومع ذلك لم تكن حكاية إبراهيم مع دمشق رومانسية دائماً، فإبراهيم أمضى جل عمره يحاول تلوين الحياة وتحريرها من سطوة الخاكي، ودفع بسبب ذلك سنوات من عمره في السجن، حيث لا تتجاوز المساحة المتاحة للمعتقل فيه مساحة البقرة في الحظيرة، كما يؤكد صموئيل في أحد مشاهد الفيلم. بعد الثورة انتهى إبراهيم منفياً، يحاول عبثاً تصفية دمه من روائح الياسمين والمازوت وتصفية روحه من عفونة السجن. تلتقطه الكاميرا وهو يحاول إزاحة الغشاوة عن النافذة التي يرى المدينة من خلالها، ولا سلاح في يديه إلا قلمه يشذبه وينظف فوهته ليكتب، كمن يقاوم ليعيش.

خالد الخاني (هل تمسح الألوان قهر حماة؟):

«خالد يرسم وكما العاصي يروي لحماة كي تنام»، هكذا يقدم طنجور التشكيلي خالد الخاني، الذي لم تتوقف عيناه عن رؤية المجزرة، منذ اقتلع النظام عينيّ والده الطبيب الحموي.. خالد هو الصرخة المكبوتة لمدينة حماة، التي كان مجرد التلفظ باسمها تهمة في ثمانينيات القرن الماضي. وخالد يرسم حتى يشفى من الألم، كما يتجسد في لقطة ذكية له وهو يغسل يديه بالماء، فيسيل الأحمر لا دماً بل ألواناً مائية، هي الألوان التي يحتاجها ليمحي زمن الخاكي، وكما يعترف في الفيلم: «الخاكي هو لون يغطي الأوساخ التي أصابتنا في زمنه، ونحتاج لكثير من الأبيض لنستطيع إزاحة كل هذا الاتساخ». في مشهد آخر نراه في الريف الفرنسي، وهو يتأمل الأخضر الواسع من خلف أسلاك شائكة، وكأنه مازال سجيناً في الماضي الخاكي، الذي كانت فيه الباصات تعود من دمشق إلى حماة محملة بالناجين من السجون، والأمهات ينتظرن على قارعة الطريق أسماء أولادهن، فالسجون السورية قادرة على تغيير الملامح والأصوات والروائح إلى الحد الذي تعجز فيه حتى الأمهات عن التعرف إلى أبنائهن.
«هو اللون الذي أبكى أمي وأبكى مدينة بكاملها»، بهذه الجملة يختصر خالد الخاكي، وزمنه الذي جعل أما محنية الظهر تركض من فرع أمن إلى آخر لتسأل عن ابنها.
وأمام جبروت الخاكي لا يمتلك خالد إلا الألوان والذاكرة، فالنسيان خيانة للضحية واستسلام للقتلة.

أماثل ياغي (الخالة وازدواج
الهوية بين الهروب والتخفي):

«أماثل» هي خالة طنجور والجزء الذاتي من الفيلم، وهي أيضاً «ثناء» المعارضة السياسية التي اضطرت لتغيير اسمها، والتخفي هرباً من بطش النظام، هي حكاية امرأة عاشت أكثر من عشرين سنة بهوية مزدوجة، وهي حكاية طفل صغير يزور خالته ولا يعرف بأي أسمائها يخاطبها. وهو زمن ازدواج الهوية، حيث الجميع يعيشون بأقنعة خوفاً من بطش الخاكي، الذي يتسرب حتى إلى الدم، ويضيف إلى كرياته الحمراء والبيضاء كريات خاكية. اليوم تعيش «أماثل» في فنلندا ولا تتوقف عن النظر من نافذتها إلى الماضي وكأن سورية هناك على مرمى حجر من الذاكرة. تلتقطها الكاميرا وهي تفرط حبات الرمان الحمراء، الرمان تلك الفاكهة الأنثوية هي حصة أماثل من الأحمر ومن الحرية. أما الألم فلا ترجمة له، وكما تقول: «اللغة الصامتة تترسب في قاع النفس ألما».
شادي أبو فخر (ثلاثية السينما والثورة والمنفى):
بين شادي وطنجور سينما وثورة ومنفى.. شادي هو سينمائي شارك في المظاهرات السلمية منذ البداية واعتقل ثلاث مرات، وانتهى به المطاف في المنفى الفرنسي دون أن يمنعه هذا من التسلل سراً إلى سورية ومواصلة عمله في السينما. ورغم رفض شادي للسلاح والمآلات الأخيرة للثورة، لكنه مازال يؤمن بأحقيتها في محاربة الشمولية والديكتاتورية، ومازال يؤمن بأن التاريخ لن يعود إلى الوراء أبداً، فزمن الخاكي ولى إلى غير رجعة. تلتقط الكاميرا شادي أمام نافذته الباريسية وكأن النافذة قدر المنفى، والحيز الذي يسمح بالتلصص على الشارع والجيران وعلى الأوطان البعيدة أيضاً. وفي مشهد آخر نراه مستلقياً على الكنبة وهو يردد بضع كلمات فرنسية أثيرة لقلبه وكأنه بها يختصر علاقته بالوطن والمنفى: شباك، مدينة، صديق، حرية، ثورة، أنا ابكي.

الطفل ذو الكنزة الحمراء:

سيرة المخرج وجيله يبوح بها طنجور بصوته في الفيلم، وترافقها غالباً مشاهد لطفل يرتدي كنزة حمراء حيناً أو بدلة خاكية حيناً آخر، فنراه مثلاً مرتدياً الأحمر وهو يركض هارباً من السترة الخاكية المعلقة على حبل الغسيل وكأنه يهرب من سطوة العسكر، وفي مشهد آخر نراه يرتدي بدلة الفتوة الإعدادية وينظر بقلق إلى صورته في المرآة، وكأنه يعي خطورة تحوله من طفل إلى عسكري يطيع الأوامر. وكبقية شخصيات الفيلم يطل الطفل أيضاً من وراء نافذة بقضبان حديدية هذه المرة، وفي يده مذياع محاولاً تغيير برنامج «حكم العدالة» إلى أغاني فيروز الرومانسية، وكأنه يحاول الهروب من سجن الخاكي إلى عالم أكثر جمالا. ثم تتعقبه الكاميرا إلى سينما الزهراء المهدمة في مدينة السلمية، وكأنه ينبش الذاكرة الشخصية للمخرج طنجور وعلاقته بالسينما، وفي الخلفية يأتي صوت طنجور متذكراً: «في السلمية كنت أهرب إلى السينما والقراءة عندما أختنق». وفي مشهد آخر نراه يكتب وظائفه المدرسية ومن خلفه يدور فيلم «نوستالجيا»، وليس صدفة أن يكون الفيلم عن علاقة الإنسان بالوطن والحنين، وأن يكون لتاركوفسكي أحد المخرجين المفضلين لطنجور، فالطفل هو وسيلة المخرج المشروعة للعودة إلى طفولته وأحلامه في مدينة السلمية. وليس صدفة أيضاً أن تكون الكلمات التي يتعلمها طنجور بالألمانية هي كلمات شادي أبو فخر نفسها بالفرنسية: شباك، مدينة، حرية، أنا أبكي… الخ. فللمنفى لغته الواحدة وإن نطقتها ألسنة ولغات مختلفة.

النهاية:

عن السينما يقول طنجور أنها رغبته في البحث عن الحقيقة، وهو في فيلمه هذا يبدو كمن يبحث عن الحقيقة في داخله وفي محيط الأصدقاء، ليصل إلى حقيقة ما جرى ويجري في سورية اليوم. ويأخذنا الفيلم في نهايته إلى البحر، حيث انتهى الكثير من السوريين العابرين في قوارب الموت، ثم إلى مقبرة في اليونان تبرع بها أحد السوريين لدفن أجساد من لم يلتهمهم البحر، قبور بأسماء وأخرى بأرقام لبشر، كان لهم يوماً أهل وأصدقاء ووطن. ثم تعود بنا الكاميرا من جديد إلى الشاطئ، وهناك نشاهد أسماكاً معلقة ومعروضة ووراءها يرفرف علم الاتحاد الأوروبي، تماماُ كالمقتلة السورية المعروضة على الملأ أمام عدم المبالاة الدولية.
ينتهي الفيلم كما بدأ بالطفل راكضاً، ثم نسمع صوت رصاصة من دون أن نرى موت الطفل أو نجاته، وكأنها طلقة تحذير لما هو آتٍ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، تماماً كما هو الفيلم مرآة وضعها المخرج أمام أعيننا، لنرى أنفسنا، علّنا نعثر على سبيل الخلاص من الخاكي.

* نقلاً عن: القدس العربي

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل