يمكننا القول إن سوريا بجغرافيتها السياسية الحالية لم تعش منذ نشأتها حالة من أزمات خطيرة معقدة مركبة كالأزمة التي تعيشها اليوم، فالبلاد التي تشهد منذ 6 سنين ثورة شعب طامح للحرية، وتحولت بفعل أسباب عديدة إلى صراع دموي رهيب، باتت تواجه أخطاراً غير مسبوقة تهدد وجودها، ووجود شعبها، وحلمه الوطني وطموحاته بالحرية.
ورغم تشابك وتصادم مصالح عدة دول في الصراع السوري؛ فإن ما يجعل خطر الأزمة الحالية هو الأكثر تهديداً للبلاد وشعبها، هو غياب دور الفاعلين السوريين، وتحولهم إلى مجرد أحجار شطرنج على رقعة تشتعل بضراوة، حتى لكأن السوريين صاروا قذائف ترمى على بعضهم بأسلحة القوى الدولية والإقليمية المتصارعة، وباتت خساراتهم هي النتيجة المؤكدة لكل تصادم على ساحة بلدهم.
والأخطر من هذا الواقع أن أطراف الصراع السوريين مستمرون في لعب دورهم المهين والهدام هذا دون أدنى اعتراض، ولا خطة ولا رؤية للخروج من أزمتهم الكارثية، مع التأكيد دائماً أن نظام الأسد الإجرامي بتعامله الوحشي مع ثورة الشعب السوري وارتكابه أفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين هو المتسبب الأساسي في ما آلت إليه حال البلاد.
على ضفة النظام.. يمارس الأسد وقادة عصابته لعبة الارتماء في أحضان الروس والإيرانيين، وتسليم مصير ومقدرات البلاد، ومقاليد قيادة الصراع إلى حليفين يمارسان وصاية كاملة على كل جبهات الصراع، السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويحاول الأسد الاستفادة ما أمكن من بعض التمايزات والافتراق في مصالح وخطط حليفيه الروسي والإيراني، دون أدنى خوف أو شعور بالمسؤولية على مصير البلاد وسيادتها المفترضة، ما دام الحليفان يعملان بتناغم تام على صعيد دعم بقاء نظام الأسد وعدم التفريط به، وهو هدف النظام الأول والأخير.
نظام الأسد يستفيد وقد استفاد طوال السنوات الست الماضية من ضعف فعالية الدول الكبرى ومواقفها المتخاذلة من جرائم نظامه، وتردد تركيا والدول العربية الداعمة للثورة وخوفها من تبعات القيام بفعل جاد حاسم من شأنه ترجيح كفة قوى الثورة والمعارضة، ولمواقف كل من هذه الدول أسبابها ودوافعها، غير المبررة طبعاً من وجهة نظر السوريين.
كذلك استفاد الأسد وحلفاؤه من التحولات الكبيرة التي تمر بها الدول الأوروبية والولايات المتحدة جراء صعود اليمين الشعبوي وهيمنة خطابه المهادن للأسد على سياسة هذه الدول في تعاملها مع الملف السوري، حتى بات بقاء الأسد “مجرم الحرب” كما يصفه معظم قادة الدول الكبرى، في ظل التركيز الدولي على مخاطر وجرائم “داعش” أهون الشرين، ولا يخجل أي من هؤلاء القادة من المجاهرة بقبول التعامل مع المستبد المجرم لمواجهة خطر “الإرهاب”.
أما على ضفة قوى الثورة والمعارضة.. فالحال أكثر كارثية، فالفصائل المسلحة تعيش حالة تفكك وضعف غير مسبوقة، وتخسر يومياً مناطق كانت تحت سيطرتها، لصالح قوات الأسد ومليشيات إيران الطائفية، ولم تستفد حتى الآن من أي تجربة سابقة فيما يتعلق بأدائها العسكري العقيم، ولا من خساراتها المتتالية لدعم حاضنتها الشعبية جراء تصديها برعونة لإدارة شؤون حياة السوريين في المناطق المحررة، مع كل ما يرافق هذه الرعونة والتخبط من ممارسات قامعة للحريات الشخصية، واقتتال دموي بين الفصائل بهدف إلغاء “الأخوة الأعداء”، وتعزيز السيطرة على ما يقع تحت سطوة سلاحها المنفلت من أي رادع على المدنيين وموارد الحياة العامة.
هذا التنمر والاعتماد على الترهيب والعنف الذي تمارسه معظم الفصائل ضد بعضها وضد المدنيين الخاضعين قهراً لحكمها في مناطق نفوذها يقابله غياب الهيبة والقرار والإرادة والصلابة والمشروع في مواجهة الدول الداعمة ومصالحها التي باتت أكثر وضوحاً في اختلافها، بل تعارضها التام مع مصالح الشعب السوري الثائر، ومع مصالح الفصائل نفسها. ولا يختلف حال الفصائل المسلحة عن واقع القوى السياسية الممثلة للثورة والمعارضة، فالائتلاف الوطني يعيش غيبوبة تامة منذ أكثر من عامين، وكل ما يتوقعه السوريون بخصوصه حاليا أن ترفع أجهزة الإنعاش عنه، ويعلن موته، غير مأسوف عليه.
أما الهيئة العليا للمفاوضات فقد أطلقت النار على قدميها الضعيفتين أصلا وتحولت إلى جسم سياسي هزيل معاق بعد مهزلة رضوخها المذل في مفاوضات جنيف بنسختها الرابعة لشراكة “المنصات الملتبسة”، وتحولها بالتالي من ممثل وحيد لقوى الثورة والمعارضة إلى “طرف” يقاسمه التفاوض على مصير الثورة والبلاد أطرافٌ غير مقبولين بالمرة من شارع الثورة، ومشكوك بولائهم للأهداف التي ضحى السوريون بكل شيء من أجل تحقيقها.
وعلى ضفة الشعب السوري الثائر.. تبدو العزيمة والآمال في مستويات مقلقة، حيث لم يعد واضحاً ولا أكيداً لحاضنة الثورة أن “صبر أيوب” الذي مارسه الناس طوال 6 سنين يمكن أن ينتج عنه وطنٌ يليق بتضحياتهم، فالخيبات تتوالى، من أداء قوى الثورة والمعارضة العسكري والسياسي، وحتى الإعلامي، ومن تعامي المجتمع الدولي عن مأساتهم، مأساة العصر، ومن التخلي المفجع عنهم من دول كانت حتى الأمس القريب تبيعهم وهم دعم مطالبهم بالحرية، والتخلص من نظام مجرم قتلهم بكل الوسائل والأسلحة، وهجرهم وشتت شملهم، ليعيشوا واقعاً مؤلماً لم يكن يخطر في بالهم عندما هتفوا “الموت ولا المذلة”، فإذا بهم يواجهون الموت والمذلة معاً.
وأكثر ما يسبب الألم والإحساس بالفجيعة للسوريين الصابرين على كل جرائم الأسد وحلفائه؛ أن معظم قادة ثورتهم ومعارضتهم يفتقرون شجاعة الاعتراف بفشلهم، بنفس مقدار افتقارهم للحكمة والوعي بمخاطر إدارتهم الفاشلة لقضية شعبهم العادلة، ويزيد البعض على ذلك فيقول ألماً: ويفتقرون كذلك للحياء والخجل من دم شعبهم وتضحياته.
الإقليم كله يعيش خطر التفتت والانفجار بفعل تطاير شرر الصراع السوري، وسباق محموم تخوضه دول طامحة لكسب نفوذ لها على الأرض السورية الممزقة، ولا عاصم اليوم للسوريين من طوفان المليشيات الإرهابية متعددة الجنسيات والإيديولوجيات، وفيما تنغرس أعلام دول شتى على التراب السوري معلنة مرحلة احتلالات جديدة، وترسم خرائط نفوذ المستعمرين الجدد، يتابع نظام البراميل الأسدي حكم بعض السوريين بالترهيب، وخلع أكثرهم وتهجيرهم من بلادهم ورميهم إلى المنافي ما لم يستطع قتلهم أو اعتقالهم ليمكنه قتلهم تحت التعذيب، وتحت علم وسمع ومرأى العالم أجمع.
على الأرض التي سقاها أبناؤها دمهم الطاهر يمكن لكل الأغراب من قوات دول ومليشيات إرهابية أن تعيش وتحكم، أو تتعايش وتتحالف، وحدهم السوريون يعيشون مأساتهم تحت ركام منازلهم المدمرة، وركام أحلامهم بوطن حر كريم آمن، ولا يعثرون على بصيص ضوء يمنعهم من القول: وداعاً لحلم الحرية.
Sorry Comments are closed