رغم أن لا شيء حصل على صعيد ترتيب الظروف المناسبة لتحقيق أي نجاح ولو بالحد الأدنى، تتواصل الجهود الدولية الرامية لعقد اللقاء الرابع في جنيف المقرر في العشرين من شهر شباط/فبراير الجاري بين قوى الثورة والمعارضة من جهة ونظام الأسد من جهة ثانية برعاية أممية وحضور دولي للأطراف المعنية بالصراع السوري.
واقع الظروف الدولية كما وقائع الميدان العسكرية تعزز شكوكنا بأن جولة المفاوضات القادمة لن تكون أكثر من مناسبة غير ذات جدوى، فخلال الشهرين الماضيين الذين شهدا إعلان وقف إطلاق نار في سوريا، سقط أكثر من ألف شهيد معظمهم من المدنيين بنيران قوات الأسد ومرتزقة مليشيات إيران الطائفية، وطيران بوتين “الضامن والراعي لعملية السلام”.
كما شهد شهرا الهدنة “الأكذوبة” تهجيراً جزئياً لأهالي وثوار بلدات وادي بردى، وهجوماً دموياً وتقدماً متواصلاً لقوات الأسد وحلفائه على جبهات الغوطة الشرقية، وقصفاً ومجازر على حي الوعر الحمصي ومواقع ثورية ومدنية في إدلب.
كما استمر فشل الأمم المتحدة في إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي يحاصرها نظام الأسد، ولم يفرج عن أي معتقل في سجون النظام الدموي، الذي لم يزعجه أي موقف دولي أو حتى عربي من إعلان منظمة العفو تقريراً تحدث عن إعدامات لعشرات آلاف المعتقلين في سجن صيدنايا، ليواصل العالم ومنظماته سقوطهم الأخلاقي المفجع وعجزهم الفاضح عن فعل أي شيء يلجم شهوة القتل والمجازر المتواصلة بحق شعب فجع بمئات الآلاف من أبنائه.
الدول العربية الفاعلة في الملف السوري تعيش حالة عطالة واستقالة من الفعل، وتراقب ما سيكون عليه موقف إدارة ترمب، فيما قيادة الولايات المتحدة الجديدة منشغلة في هذه المرحلة بترتيب ملفاتها وأولوياتها، وبمعاركها الداخلية، وبفتح بازار استعداء الداخل والخارج عليها، ومعظم الدول الأوربية الكبرى على وشك دخول ميادين الانتخابات وتعيش أزمات لا حصر لها، وهذه الظروف الدولية تجعل العرب وواشنطن وعواصم القرار الأوربية منشغلة وبعيدة كلياً عن الاهتمام حاليا بالملف السوري، فيما تعيش تركيا أوضاعاً داخلية أمنية واقتصادية وسياسية معقدة تدفعها للتعامل بحذر شديد مع الصراع السوري.
القيادة الروسية تدرك جيداً واقع حال الدول المعنية بالملف السوري وانشغالاتها بشؤونها الداخلية، وهي تستثمر جيداً في هذا الوقت الضائع، حيث استبدلت “ظاهرياً” ثوب الخصم والعدو للثورة السورية وقواها العسكرية والمدنية، واتخذت لنفسها صفة الراعي والضامن لجهود الحل السياسي، رغم أن قواتها ما زالت تمارس كل أفعال العدوان المباشر وغير المباشر على المناطق المحررة، وتبدو عازمة على استكمال الدور الذي منحته لنفسها برعاية المفاوضات بالتعاون مع تركيا، ومشاركة إيرانية لم تلق من يرفضها بشكل حاسم، ولقاء الأستانا الثاني الذي انعقد قبل أيام دليل جديد على إصرار الروس على متابعة الخطة التي وضعوا خطوطها الأولى في اتفاق أنقرة، ومن ثم في لقاء أستانا الأول، واستحضروا ممثل الأمم المتحدة ستافان دي مستورا ليشارك في اللقاءات بلا أي ضرورة فعلية، فبدا كما لو أنه شاهد زور على محاولة الروس غسيل أيديهم من دم السوريين.
العالم الذي انشغل بتغريدات ترمب العنترية ولهجة تصريحات المسؤولين الأمريكيين الجدد التصعيدية ضد إيران، وجد كل الوقت ليمارس مزيداً من الضغوط على مؤسسات المعارضة السورية لتشكيل وفد تفاوضي جامع لكل من هب ودب، بمن فيهم من لا يخجل من إطلاق وصف “السيد الرئيس” على القاتل بشار الأسد، وبلغت وقاحة التصريحات حداً مستفزاً مع تهديد دي مستورا بتسمية الوفد المفاوض للمعارضة في حال لم تقم مؤسسات المعارضة السورية بتشكيل وفد يعجب المبعوث الأممي الذي يؤكد يوماً بعد يوم أنه أفشل من لعب دور “المحايد والنزيه” من بين كل مبعوثي الأمم المتحدة عبر تاريخها المخزي!
قوى الثورة والمعارضة ردت على إهانة دي مستورا واستنكرت تهديداته وطالبته بالتزام حدود دوره، ولكنها في الحقيقة تتحمل مسؤولية هوانها، وغياب رؤيتها للتعامل مع التطورات الخطيرة التي تواجهها الثورة وقواها، كما تتحمل مسؤولية ضعفها أمام حلفائها، أو من يسمون كذلك، وطبعاً تتحمل مسؤولية انعدام ثقة السوريين والثوار بمؤسساتها، وقادتها، ومعظمهم في الحقيقة غير أهل للثقة لجهة قدرتهم وكفاءاتهم في تمثيل تطلعات الشعب الثائر وإدارة ملف صراعه مع نظام البراميل المتفجرة وحلفائه وشركائه في جرائمه.
وإضافة إلى ضعف حضور وفعل الدول الداعمة للثورة السورية، فإن واقع قوى الثورة والمعارضة الضعيف والبائس، سياسياً وعسكرياً، وحتى إعلامياً، يجعلها مرغمة على الذهاب إلى جنيف دون أي ضمانات بجدية المفاوضات وقدرتها على إحداث اختراق يحقق أي تقدم إيجابي، ينهي المقتلة السورية أو يضع خطة لإنهائها. وما دام خيار الذهاب إلى جنيف إجبارياً رغم اليقين بعدم الجدوى، فإن العمل على الاستفادة من المشاركة مطلوب، بل ويكاد يكون استحقاقاً وطنياً، خاصة لجهة التعامل مع الروس وادعاءاتهم بالعمل على الوصول إلى حل سياسي.
نعتقد أن الروس ورغم هزيمة الثوار في حلب وصلوا مؤخراً إلى قناعة تقول أن النصر العسكري الحاسم على الجيش الحر والفصائل الإسلامية ليس بالمتناول دون خسارات سياسية وعسكرية واقتصادية لا قِبل للقيادة الروسية بتحملها، وأن أي تراجع لقوى الثوار في الميدان سيترجم مزيداً من المكاسب العسكرية وبالتالي السياسية لإيران ومليشياتها، لا لنظام الأسد ولا للروس الذين يقدمون الإسناد الجوي الحاسم في المعارك، وهو واقع دفع القيادة الروسية لإعادة التفكير بخطة الحسم العسكري والرجوع عنها لصالح تنشيط المسار السياسي للمفاوضات التي سبق أن توقفت نتيجة عناد الروس أنفسهم.
لا نتوهم دوراً محايداً للروس في العملية التفاوضية، وبالتأكيد لن تقوم القيادة الروسية بدعم أي مطالب للثورة السورية ضد نظام الأسد، ولكننا معنيون بالتأكيد بإحداث اختراق على صعيد علاقة الروس بالإيرانيين ونظام الأسد، ويهمنا جداً أن نزحزح الروس ولو قليلاً عن موقفهم الداعم بلا حدود لبشار ونظامه، ونعتقد أن لقاء أستانا الأول، ومجمل الحراك السياسي الذي سبق هذا اللقاء وما تلاه من اتصالات مع الروس من قبل قوى الثورة والمعارضة يصب في هذا الاتجاه.
قوى الثورة والمعارضة لا تملك الكثير من الخيارات، واستمرار تواصلها مع القيادة الروسية، ودفع الأتراك ليكونوا أكثر حسماً في مواقفهم مع الروس، هو الخيار الصائب حالياً في ظل انعدام التوازن بين قوى الثورة وقوى النظام وحلفائه، وربما لم نتمكن حتى الآن من عزل الروس عن النظام وحلفائه الآخرين، ودفعهم لاتخاذ موقف حيادي على الأقل من الصراع في سوريا، ولكن نعتقد أن الأمر يستحق المحاولة، ويجب أن لا نفوت فرصة ظهور بوادر اختلاف في مصالح الحليفين الأساسيين لنظام الأسد، الروس والإيرانيين.
ظروف الثورة السورية الصعبة تجعل مسؤولية قوى الثورة والمعارضة مضاعفة في هذه المرحلة، وتتطلب من القادة وضع استراتيجية للتعامل مع المفاوضات القادمة بصلابة وذكاء، وحسن اختيار المفاوضين وتحديد المهام، لتمرير هذا الاستحقاق السياسي بلا أضرار، ما دام تحقيق النفع صعباً في هذه المرحلة.
يبقى الدور الأهم والأخطر للثوار، فوحدة قواهم وكلمتهم تفرضها التحديات الجسيمة التي تواجهنا، والتضحيات الكبيرة العظيمة التي بذلت، ولا بد أن تبقى كلمات تشي غيفارا في حسبانهم: “الحق الذي لا يستند الى قوة تحميه باطل في شرع السياسة”.
Sorry Comments are closed