كما في محاولات سابقة فاشلة، تحضر موسكو لخطة حل توافق هواها واستراتيجيتها في تكريس بقاء الأسد ونظامه، ويعتقد الروس أن نتائج معركة حلب الأخيرة، وخسارة الثورة لواحدة من أهم قلاعها، ربما تكون أنضجت ظروفاً مستجدة قادرة على فرض حلول قاهرة للثورة والثوار لطالما حاولت تسويقها من قبل.
في الشكل تبدو المحاولة الجديدة نسخة طبق الأصل من تصورات موسكو عن الحل الذي ترغب به، ولكن في المضمون تبدو الخطة الروسية ماضية أكثر من أي وقت مضى في طريق كسب داعمين جدد لها، بعد انضمام تركيا، حليف الثورة الأبرز، إلى جهود موسكو لإنهاء الصراع بسرعة، مستغلة حالة الضعف الواضح التي تعتري الثورة وقواها العسكرية والسياسية، وابتعاد الولايات المتحدة عن الملف السوري، إن لم يكن تسليمها هذا الملف للروس إلى أن يقرر ترمب خطوط سياسته في سوريا.
وما وجود إيران على طاولة الاجتماع الثلاثي إلا تأكيد على أنها صاحبة قرار مؤثر في مجريات الصراع السوري، ولاعب محوري فيه، بإمكانه متى أراد تعقيد أي حل ومنع إنفاذه، على غرار ما جرى في ملف تهجير سكان حلب، الذي أعاقته بكل اقتدار مليشيات إيران الطائفية حتى حصولها على مطالبها الخاصة بشأن محاصري بلدتي كفريا والفوعا.
وفي المضمون أيضاً.. تبدو حالة الاستقواء الروسية بانتصارها الأخير في حلب جلية إلى أبعد الحدود، فالاجتماع الذي انعقد أمس في موسكو أقصى كل الأطراف الداعمة للثورة، ولو كانت من الدول الداعمة بالكلام، كما أقصى الأمم المتحدة، واقتصر على طرفين يعتقدان أنهما منتصران، طرفين حليفين للأسد ونظامه، وتركيا كطرف ثالث، يبدو أنه أعاد حساباته وتصوراته للصراع مع نظام الأسد، ويعيد تموضعه حالياً انطلاقاً من حسابات تحكمها أوضاعه الداخلية والخارجية الخطرة والمتشابكة والمعقدة إلى أبعد الحدود، وهذا الطرف لم يكن ليجد مقعداً له على طاولة الاجتماع لولا رضا روسيا وإيران على أداء الأتراك في ملف معركة حلب واتفاق تهجير أهلها وثوارها، الذي أطلق عليه زوراً وبهتاناً “اتفاق إجلاء طوعي”، ولا يعرف أحد في العالم كيف أمكن تسميته كذلك، بعد أن أجبر أهالي حلب وثوارها على الخروج من بيوتهم مكرهين، مقهورين، بقوة الموت قصفاً بالبراميل المتفجرة وسلاح الكلور الكيميائي والقنابل الارتجاجية الروسية، والموت جوعاً بحصار همجي على مرأى ومسمع العالم أجمع، ومنظماته الأممية!
“بيان موسكو” الذي صدر عقب هذا الاجتماع تحدث عن اتفاق روسيا وتركيا وإيران على مبادئ عامة غامضة من حيث تفاصيلها التنفيذية، فلا وجود لحل عسكري وفق البيان الثلاثي، ولا بد من من تسوية سياسية تعتمد إطلاق مفاوضات جديدة بين نظام الأسد والمعارضة، ودعم وقف إطلاق نار لا يشمل “تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة”، ويؤكد البيان على استمرار الحرب على هذين التنظيمين، وتأكيد احترام سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية كدولة ديمقراطية علمانية متعددة الأعراق والأديان.
الاجتماع الثلاثي يقول دون تصريح بذلك أن مرجعية بيان جنيف صارت من الماضي، وأن مجمل العملية السياسية التي انطلقت بناء على “جنيف” المؤيدة بقرارات مجلس الأمن، والتي قررت إنجاز تسوية سياسية تضمن عملية انتقال للسلطة، باتت حبراً على ورق، وأن التسوية تفرض فعلياً بقوة العمل العسكري، وقهر السوريين، بمن فيهم نظام الأسد الذي تحول إلى طرف غائب عن القرارات الحاسمة، وأن دوره لا يتجاوز قيام رأس النظام بالإعلان عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن نصر ساحق في حلب على شعب محاصر، وثوار تخلى عنهم جميع داعميهم، فيما كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني يتجول بشكل استعراضي قرب قلعة حلب ويتفقد ركام أحيائها الشرقية، ليقول بشكل واضح: نحن صانعو الانتصار.
وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يخرج عن أي دولة عربية، بما فيها “أصدقاء الثورة” تصريح واحد يتحدث عن موقف من الاجتماع الثلاثي الذي استبعدهم مجتمعين، في تأكيد لا تخطئه عين أنهم بالفعل بلا أي أهمية بنظر المجتمعين.
أما المعارضة وقوى الثورة السورية.. فإنها دون أدنى شك، خارج أي حسابات في هذه الخطوة، ولم تستشر، ولم يخبرها أحد بما سيحصل، ولا ما حصل، وتابع قادتها أخبار الاجتماع وبيانه عبر شاشات التلفزة، قبل أن يعودوا إلى نومهم بانتظار خبر جديد، في يوم جديد!
وأكثر ما يتخوف منه قادة هذه المعارضة البائسة هو إبلاغهم بعد أيام قليلة بجدول أعمال لقاء الأستانة، وموعد انعقاد محادثاته، وعندئذ يقعون في الحيرة الكبرى، فماذا هم فاعلون؟
ويتساءل السوريون: هل سنقرأ أو نسمع موقفاً للمعارضة وقوى الثورة مما حدث في اجتماع موسكو؟ وهل ننتظر موقفاً من قادتها يتحدث عن تقييمهم للتغيرات في الموقف التركي الذي بات يخيف كل سوري آمن بالثورة وأهدافها، وظن أن أصدقاء الثورة أصدقاء حقاً؟
ولأن الحقائق لا تخفى، والمقدمات الواضحة تقود لنتائج واضحة .. فإننا نجزم أن ما حصل في موسكو لا يعدو كونه توافقاً على طبخة حل مسمومة تجهزها أطراف دولية بعيداً عن رأي وطموحات السوريين، قافزة على تضحياتهم المتواصلة منذ ست سنوات، متجاهلة البحث في مصير من تسبب في كل هذا الموت والدمار الذي أحال سوريا إلى بلد محتل مسلوب الإرادة، ليس هذا فحسب، بل وتعيد تعويم نظام القاتل بشار الأسد، وتمنح حقوقاً غير مستحقة ولا شرعية في التحكم بمصير ومستقبل سوريا للأطراف الدولية التي غطت ودعمت نظام الأسد في قتل الشعب السوري وتهجيره وفرزه طائفياً وقومياً ودينياً على نحو لم يشهد له السوريين مثيلاً منذ خلقوا.
هذا ما تقوله الوقائع.. فليستعد الشعب السوري وثواره ونخبه وسياسيوه الوطنيون لمعركة جديدة لا تقل ضراوة وشراسة عن معاركهم في مخيمات اللجوء وحافلات التهجير ومعتقلات نظام الأسد وجبهات المواجهة مع مليشيات الأسد وخامنئي الطائفية، وقنابل طائرات بوتين التي لطالما انزلقت إلى أعماق البحر المتوسط، ولا يحتاج إسقاطها إلا شجاعة عربية .. ما زالت غائبة!
هذه الطبخة بدت بوادرها في الطبخة اللبنانية التي جمعت الأعداء الألداء 14 و8 آذار, وقد نوهت الى هذا على هذه الصفحة منذ الدقيقة الأولى التي أعلن فيها هذا التوافق بين سعد الحريري وميشيل عون.واضح أن طبخة لبنان جزء من توافق عام للمنطقة كلها. وسيتبعها اليمن ولو بعد حين. وكما قال حسن نصر الله :نحن قمنا بتضحية مؤلمة جدا(يعني موافقته على تسمية سعد الحريري رئيسا للوزراء وهو الذي طرده شر طردة من هذا المنصب وجاء بنجيب ميقاتي بدلا عنه منذ ستة سنوات.) . أرجو أن تكون تضحية حسن نصر الله في سوريا أكبر…….أكبر بكبر التضحيات التي قدمها الشعب السوري من أجل الحرية والديموقراطية.