لم يترك قمع نظام الأسد الوحشي فرصة لبقاء الثورة سلمية رغم كل محاولات الناشطين والتشكيلات الثورية للحفاظ على الطابع السلمي للحراك الشعبي، فبعد شهور من مواجهة قوات أمن النظام للمتظاهرين السلميين بالاعتقال والتنكيل والقتل وإذلال المجتمع السوري بالاقتحامات الوحشية لأحياء مدنه وقراه، وبعد الاقتحام الدامي لمدينة حماة تحديداً، وذلك في اليوم الأول من شهر رمضان في العام 2011، وهي المدينة التي عبرت مظاهراتها السلمية الحاشدة عن أبرز مشاهد سلمية الثورة رقياً، وجدت دعوات التسلح ومواجهة قوات الأسد صدى لدى الكثير من الشبان المدفوعين بقناعة الحق بالدفاع المشروع عن النفس والرد على الممارسات الوحشية والمهينة لعناصر أمن النظام.
الخلايا المسلحة التي تشكلت مع بدايات الثورة من الشبان المدنيين وجدت في عناصر وضباط الجيش المنشقين عن جيش الأسد ضالتها لتنظيم عملها المسلح الدفاعي البسيط والبدائي، ومع هذه الخلايا قليلة العدد والعدة والخبرات القتالية تشكلت أولى مجموعات الثوار المسلحين التي أطلق عليها اسم “الجيش السوري الحر” في نهاية شهر تموز يوليو 2011، كإطار جامع للسرايا والفصائل والكتائب التي تحمل السلاح موكلة إلى نفسها مهمة حماية المظاهرات السلمية بداية ومقاومة اقتحامات قوات الأسد للمناطق التي تشهد حراكاً شعبياً ثورياً، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الثورة، هي مرحلة المقاومة المسلحة، مطلقة معها جدلاً واسعاً في صفوف ناشطي الثورة والمجتمع السوري حول مخاطر وجدوى وقدرة هذا النشاط الثوري المسلح على تحقيق هدف الثورة الأساسي، المتمثل في إسقاط نظام الأسد الاستبدادي الوحشي.
نجاحات عسكرية بسيطة حققتها تشكيلات الجيش الحر في وجه قوات أمن وجيش الأسد، لكنها كانت كافية لتمنح الثورة دفعة معنوية في مواجهة العنف المفرط والوحشي الذي مارسته عناصر أمن وجيش وشبيحة الأسد، إلا أن هذه الدفعة المعنوية لم تستطع دفع “الجيش الحر” لبلورة مشروع عسكري ثوري متماسك، رغم المزاج الشعبي الداعم له، وفشلت تشكيلات الجيش الحر في الانتقال إلى مستوى تنظيمي قادر على قيادة العمل العسكري الثوري، وظهرت مع هذا الفشل التنظيمي حالات فشل في العمليات القتالية، رغم كل ما أبداه عناصره من بسالة وتضحيات وإخلاص للثورة، وظهرت حالات من الانفلات والتجاوزات في تصرفات الكثير من فصائله وقادته وعناصره، كانت تستلزم حزماً لم يجد من يتصدى لمسؤولية القيام به في التعامل معها وتقويمها ومحاسبة مرتكبيها ليحافظ الجيش الحر على دعم الحاضنة الشعبية للثورة.
وعلى غرار ما حصل في صفوف المعارضة السياسية من تشرذم وتنازع على القيادة، عانى الجيش الحر انقسامات وصراعات على القيادة تركت أثراً بالغ السوء على صيرورة العمل العسكري الثوري ستعاني منه الثورة السورية حتى كتابة هذه السطور، وفشلت حتى هذه اللحظة كل المحاولات الداخلية والخارجية لجمع فصائل الحر وجعلها كياناً قادراً على إحداث نقلة نوعية حاسمة في الصراع العسكري.
في الوقت الذي كانت صفوف الجيش الحر تعاني من الانقسامات كانت الفصائل المسلحة ذات الطابع الإسلامي تشهد تصاعداً في حضورها وفعالية عملياتها ضد قوات الأسد، يساعدها في ذلك تماسك بناها التنظيمية المسنود بمرجعيات نظرية وعقدية تمنحها مزيداً من القوة، حولتها إلى الرقم الصعب في العمل العسكري ضد النظام.
ومع تصاعد وحشية هجمات قوات الأسد وارتفاع حدة الصراع المسلح وتراجع العمل الثوري المدني والتظاهرات السلمية وارتفاع حدة الاستقطاب الطائفي إلى مستويات مكنت الخطاب الجهادي من انتزاع مؤيدين كثر له في صفوف الثوار والحاضنة الاجتماعية للثورة، بات تمسك فصائل الجيش الحر بخطابها الوطني صعباً للغاية، وبدأت التمايزات بين الحر والفصائل الإسلامية تتلاشى شيئاً فشيئاً، وتمكنت الفصائل الإسلامية من الاستحواذ على الدعم الشعبي والخارجي، ما أفضى لاحقاً إلى إضعاف فصائل الحر، حتى صارت مجرد مجموعات صغيرة لا تقوى على حماية مقراتها من تغول الفصائل الإسلامية وغزواتها المتلاحقة بسبب أو من دون أسباب.
الآن وبعد أكثر من خمس سنوات من الصراع والقتال بات التمييز بين فصائل الجيش السوري الحر والفصائل ذات الايديولوجيا الإسلامية صعباً حقاً، إلا أن الفروق موجودة بالتأكيد، وفي مقدمتها إيمان معظم قيادات الجيش السوري الحر بوطنية الثورة ومهماتها الأساسية، وهي تحرير سوريا من الاحتلال الداخلي (قوات الأسد وميليشياته)، والاحتلال الخارجي (روسيا وإيران ومليشيات الولي الفقيه الطائفية متعددة الجنسيات)، تمهيداً لبناء سوريا حرة لكل مواطنيها، وهي مهام سورية وطنية بامتياز، لا تعير بالاً للمشاريع العابرة للحدود، الإسلاموية أو القومية، أي أنها مهام لتحقيق أهداف الشعب السوري بكل مكوناته الطامحة للحرية والكرامة والتخلص من حكم الاستبداد.
ولهذا يبدو تمسك فصائل الجيش الحر براية الثورة التزاماً رمزياً معبراً للغاية عن التزامه بالواجب الوطني السوري الذي تحمل مسؤوليته، فيما تعتبر معظم الفصائل الإسلامية أن المعركة الحالية في سوريا هي مرحلة من مراحل معركتها من أجل مشاريعها الأخرى، سواء تلك التي تعمل على إقامة دولة الخلافة بأشكالها المختلفة، أو تلك الرامية إلى تأسيس كيانات عابرة للحدود السورية.
وهذا الافتراق ليس بسيطاً، إنه يعني أولاً وقبل كل شيء أن ثوار الجيش السوري الحر معنيون بشعبهم، وطموحاته، قبل أي هدف آخر، وبالتالي فإن حرية ووحدة الشعب والوطن السوري هي العقيدة القتالية التي تتأسس عليها فصائل الجيش الحر، والتزام الحر بحماية المدنيين والدفاع عنهم والقتال من أجل طموحاتهم يجعل من الجيش الحر أملاً لثورة هذا الشعب رغم كل ما يعانيه الحر من صعوبات ومشاكل ذاتية وموضوعية.
نقطة افتراق أخرى تميز فصائل الحر عن بقية الفصائل المقاتلة في سوريا، وهي مسؤولية ثوار الحر أمام مجتمعاتهم المحلية، فهؤلاء الثوار أبناء مجتمعاتهم، وهذا يجعلهم أكثر قرباً من المدنيين وآمالهم وآلامهم، وأكثر فهماً لاحتياجاتهم ومعاييرهم الأخلاقية وعاداتهم الاجتماعية المميزة لهم، وهي ميزة جعلت ثوار الحر أقل ارتكاباً للأخطاء والانتهاكات بحق المدنيين وأكثر تورعاً من غيرهم عن سفك الدم، حتى في مواجهة البيئات الاجتماعية الحاضنة لمقاتلي قوات الأسد، كما جعلتهم أكثر تقبلاً لأنماط الحكم المحلية، والرضوخ لمجالس سلطة المدنيين التي أفرزتها الثورة.
الجيش الحر والحال كذلك يمثل فكرة أن الثورة أخلاق، وأنها حركة تغيير لتمكين السوريين من تقرير مصيرهم، لا حكمهم بالقوة، أكثر من باقي الفصائل التي لا ينكر جهدها وتضحياتها في مواجهة النظام المجرم وحلفائه.
ولكن.. هل يكفي أن يكون الجيش الحر نظرياً محط آمال الشعب السوري الثائر؟ واقع ثورة السوريين الصعب والمعقد ولا سيما بعد دخول العدوانين الإيراني والروسي مرحلة الحرب المباشرة على الثورة وشعبها، لا يسمح للسوريين أن يغفروا للجيش الحر وقادته تقاعسهم عن الانتقال إلى مرحلة تنظيم الصفوف والرؤية والعمليات بشكل يمكنهم من تجسيد عقيدتهم القتالية الوطنية التحررية فعلاً عسكرياً وسياسياً يسرع جهود إنجاح الثورة وتحقيق أهدافها..
وما لم يفعلوا ذلك الآن وقبل فوات الأوان، فإن أمل السوريين بالجيش الحر لن يكون إلا ألماً من خيبتهم بمن راهنوا عليه بديلاً لجيش قتلهم ودمر بلادهم وهجرهم وأحال ثورتهم العظيمة إلى نكبة ستظل غصة حارقة في قلوبهم تتذكرها أجيال السوريين القادمة.
عذراً التعليقات مغلقة