- حامد الكيلاني
سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن سامانثا باور، وصفت الاجتماعات الطارئة المتكررة لمناقشة ملف الأزمة السورية وما يجري من مجازر في شرق حلب، بأنها لقاءات لـ“نادي الأسطوانة المشروخة” في إشارة واضحة ومباشرة إلى تصلب الموقف الروسي الداعم للنظام الحاكم في سوريا، والملل الذي سببه استخدام حق “الفيتو” والتمادي باللامبالاة تجاه الموت المجاني للمدنيين الذي طال حتى الهاربين إلى الجهة الغربية من حلب، حين تناوشتهم مدفعية النظام والميليشيات الإيرانية من الحرس الثوري اللبناني أو الفصائل النظامية المنتمية إلى هيئة الحشد الشعبي في العراق؛ تناوشتهم بالمدفعية والعويل الطائفي.
روسيا على لسان المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع أكدت نأيها عن المشاركة في أعمال عسكرية منذ أكثر من 40 يوما، وبعد يوم واحد من التصريح المذكور قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أثناء زيارته إلى تركيا إن قوات بلاده تواصل أعمالها العسكرية للقضاء على الإرهاب إلى أن يكتمل الحسم العسكري في حلب، كما تفعل قوات التحالف والقوات العراقية في الموصل.
العمل السياسي بهذه الطروحات يمكن تقبله من تجارب دكتاتوريات صغيرة في عالمنا الذي كان فرِحا بمصطلح “الدول النامية”، وهو تشريف وحث أممي لخلاص تلك البلدان من فقرها ومرضها وجهلها، وفي جو المصالح الخاصة للأفراد أو الأحزاب الحاكمة تُمَرر الأكاذيب بكافة أحجام وألوان حقائبها المليئة بتناقضات التصريحات وإعلام أهواء السلطة، ومنها التعذيب وما يجري في السجون خلف القضبان الحديدية، أو خلف قضبان الحدود الجغرافية وما نسميه بالسجون الكبيرة المزدحمة بمعاناة العيش والبؤس واللاكرامة، كل ذلك بحسابات لا يعرفها وليست من صلاحية أحد إلا الحاكم الأب الذي له حق التصرف بأفراد أسرته أو عائلته كما يشاء، لأنه مصدر الماء والكهرباء وحق تناول الغذاء على شحته، وهو حاميهم من الغير إلا من نفسه، أي أنه يتصرف ضمن إرادته دون أن يسمح بأي تدخل خارجي أو انتفاضة من داخل الأسرة على جلاد يمتلك حصانة أبوية صادمة لكل حقوق الإنسان حتى في أدنى متطلباتها.
ما يجري في سوريا، وحلب تحديدا، يقع ضمن تعريفنا لما يمكن أن يقدم عليه رب أسرة دكتاتوري من أفعال التنكيل بأسرته وأطفاله بما يعرضهم إلى الموت، وعندما يصرخون ويتعذبون وتخرج الأم نائحة في الشارع على مصير أولادها، يتسارع رب الأسرة ومناصروه لمنع أي تدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بحجة أنه شأن داخلي ومبرراته دائما أنهم لا يفقهون شيئا؛ لا نزيد، لأننا ندرك أين وصل الحال في سوريا أو العراق من ارتكابات الأفعال الشائنة وهي تقترب في مخيلتي مما قدمه العبقري الفيلسوف الإيطالي المخرج السينمائي بازوليني في فيلمه “سالو” من سقوط الساسة في مأدبة الفجور والغثيان.
ومن هؤلاء من يحتكر المافيات الخفية والجيوش العائلية أو الطائفية، أقرب إلى القراصنة، يتشبهون بالنظم الإنسانية والسياسية التي أنتجها العقل البشري وتراكماته، ومع أول احتكاك مع صوت مخالف تظهر حقيقة مدارسهم الوحشية وتطبيقاتها.
كان السلاح الشخصي في بلد مثل العراق يخضع لمعايير أمنية وموافقات أصولية، ولو لمسدس جيب، وشخصيا كنت أبتسم عندما أرى أحدهم يحمل سلاحا أشعر أنه ليس بحاجة إليه، فمكانته وشجاعته ومحيطه أيضا لا تستدعي ذلك، لكنني كنت على دراية أيضا ومسبقة بأن السلاح لبعض الشخصيات وقار والتزام أخلاقي بعدم استخدام القوة والقوة المفرطة تحت أي ظرف يضعك فيه موقف ما أو شخص متهور أو فاقد لأعصابه، لسبب بسيط هو امتلاك الثقة بالحسم لصالحك، كما لو أن ملاكماً أو مصارعا يعتدي عليه من لا يدرك سر قوته، فنراه متسامحا ومتجاوزا لغضبه، أي أن قوته تمنحه اشتراطات مضافة من التروي والأخلاق والحكمة والثقة بمكنوناته.
يقودنا هذا المنطق إلى المخاوف التي تبديها الدول الكبرى المالكة لمفاتيح الأرقام السرية للأسلحة النووية، أو ما يعرف بتوازن الرعب، من محاولات الدول غير الرشيدة والقاصرة في حكمتها وتجربتها السياسية والاقتصادية من ولوج صناعة القنبلة النووية كسلاح استراتيجي يتبنى حماية نظامها؛ وطبعا للرفض أسباب موجبة أهمها عدم وجود احتياطات كافية تضمن عناصر الأمان في حالة السلم أو في حالة الاندفاع للتهديد باستخدام النووي أو استخدامه فعلا في لحظة حرجة خارجة عن السيطرة على غضب قادة سياسيين لم تكتمل عندهم مفاهيم ضبط النفس أو حساب النتائج المفزعة للجنس البشري.
نصل إلى سؤال يطرح نفسه في “نادي الأسطوانة المشروخة” هل هناك دماثة في السياسة كما في السياسة العامة؟ أو هل بالإمكان مقارنة أطوار ومراحل الدول الكبرى بالدول الصغيرة وهي في عمر المراهقة السياسية حيث الأهواء والاستبداد الكيفي بالرعاية وصناعة قوالب حكم وفق يوميات البيع والشراء وتزوير الماركات الكبيرة والاستحواذ على ما يخطر في البال بذرائعية طفيليات تقتات على قوة حمقاء خارجة عن السيطرة؟
ماذا أبقت دولة عظمى مثل روسيا بكل تاريخها الثقافي والفني والإنساني والسياسي، وهي تصطف إلى جانب آلة القتل للنظام السوري، وترتكب معه المجازر بسطحية بالغة في التحليل والتعميم؟ كيف نتخيل أبناء أكبر الثورات في تاريخ الإنسانية يحاربون ويقتلون ويشردون ويخلطون الأفكار ويتعاملون مع الثوار والأبرياء من نساء وأطفال حلب، وغيرها من المدن السورية الباحثة عن الحرية والكرامة، كإرهابيين يستحقون الموت للإبقاء على سلطة دكتاتورية كشرت عن أنيابها الطائفية، وسحقت شعبا بكامله وشردته في أرجاء الأرض بعد تدمير مدنه؟
هل بعد هذا الإصرار من دليل على أن روسيا تمر بمراهقة سن البلوغ أو اليأس، حيث الرغبة الملحّة في استعادة شبابها بمغامرات غير منضبطة تقودنا إلى نكتة قديمة أيام كان اللون الأحمر حكرا معنويا للأحزاب الشيوعية التابعة للاتحاد السوفيتي، عندما تمادى أحدهم في سنوات الأربعينات من القرن الماضي وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر الذي كان الكثيرون يحبونه في بغداد العروبة لأنه يحارب المستعمر الإنكليزي، تمادى عندما تطرف في تعصبه للاتحاد السوفيتي ووهب البحر الأحمر بعائدية تاريخية إلى جوزيف ستالين نكاية بثورة الضباط الأحرار.
القوة تفرض نفسها وتؤسس لها على الأرض مواطئ غاشمة لا يمكن ردعها، وتتخذ من أضغاث أحلامها حقائق لا يمكن مع قوتها النووية إلا القبول بتحويل الأبيض أيضا إلى الأحمر، رغم الحل المستعصي باسترخاء للكلمات السورية المتقاطعة في نادي الأسطوانة المشروخة.
- صحيفة العرب
عذراً التعليقات مغلقة