*عبدالله مكسور
شكَّلت العلاقة بين الناقد والمؤلِّف حالة إشكالية في الأدب العربي، تتعرض في حالات كثيرة للخروج عن النص في ظل تأخُّر المدارس النقدية العربية عن سابقاتها العالمية، في هذا الحوار الذي تستضيف “العرب” فيه أستاذ الأدب العربي في الأردن، زياد قبيلات، نفتح باب الأسئلة على قضايا إبداعية عديدة.
“النقد العربي اليوم مغايرٌ تماما لما كان عليه حتى بدايات العصر الحديث، ذلك بما حمله من انفتاح وتأثر، فخطابه وأداته باتا مختلفين تماما، فهو هذه الأيام بداية ينهل من معين النظير الغربي، وبالكاد يتجاوز عنه أو يقدم ويضيف شيئا جديدا ومختلفاً عما جاء به، فمذ أن دخلت المناهج النقدية النّصية غير السياقية ساحات النقد ومنابره.
صارت الدراسات النقدية تذهب باتجاهات مختلفة من التناول والمعالجات النقدية المقدمة، فقد أحدثت النصّية انفجارا هائلا على طاولة النقد، وأخذت تتجاوز كل التابوهات وتغامر بعزم غير آبهة بمخاطر النص ومنعرجاته، حتى أن العديد من النقاد ونتيجة لهذا التسيب الحرّ والديمقراطي في الطرح النقدي راحوا يحملون النصوص ما لا تستطيعه”.
بهذه العتبة عن صورة النقد الأدبي العربي المعاصر اليوم، يبدأ أستاذ الأدب نزار قبيلات حديثه لـ”العرب”.
النقد والأدب
يُفصِّل قبيلات العلاقة بين الناقد والمؤلِّف، حيث يرى الثاني الأول شرطيا وحَكَما بعين القارئ، هذه العلاقة تأخذ في المنطق العلمي بعدا آخر حيث دور الناقد يكمن في أنه يستطيع قول ما لم يقله النص والنّاص معا، وكشف المسكوت عنه وربما إكمال ما بقي على لسان صاحب النص، فالنقد، في رأي ضيفنا، يقدر على التوصيف الدقيق وعلى الإتيان بالنظرية الراسمة، في حال كانت هناك رغبة بخلق مساحات للتطبيق الذي سينتج عن تلك النظرية ورؤية صاحبها.
عن سؤالنا حول الظروف التي تحكم مكانة الناقد في الأدب العربي، إن كانت متعلقة بالإنتاج الأدبي أم دور النشر أم المحافل الثقافية، يقول قبيلات إنَّ الإنتاج الفني كان ولا يزال المعيار الأبرز لتمييز من اكتفى باللقب وركن إليه، ومن مازال مسكونا برغبة الكشف والمغامرة والبحث عن جديد يعاش فيه، فليست كل الكتابات النقدية واحدة، فمنها ما يضمحل ويتلاشى، ومنها ما يترك وشمه على جسد النصوص فيقترن بها، فكثيرون همّ النقاد اليوم الذين تغريهم الأضواء وتعجبهم أصواتهم عبر مكبرات الصوت وكذا صورهم في الأعداد الثقافية والملاحق، غير أن النهاية والغلبة هي لمن كانت نتاجاته النقدية زادا يغري ويشبع ويضيف.
هذا الحديث يفتح بابا أمامنا للدخول إلى رؤية ضيفنا لوظيفة الأدب من وجهة نظر نقدية، ليقول إن الأدب حمَل لزمن طويل وظيفة أرسطية تكمن في إشاعة الطّهر والفضيلة، لكنها وظيفة سرعان ما رفضها آخرون أرادوا من الأدب وسيلتهم للبحث عن خلق جديد وإفعام يجعل من اللغة عصا تتحسس مجريات هذا العالم وتصوّت لمن لا صوت له، فالأدب ساحة موازية للواقع، مجاورة وربما مجارية له، ومن شأنها خلق حيوات عوضا عن حياة صرفها أصحابها وأضاعوا الفرصة.
كل هذا على سبيل التخييل والتقدير المفترض، فاليوم –والحديث لضيفنا- يلعب الأدباء لعبة خطيرة لا تغفلها عين الرقيب أو الأمني، فهم – أي الأدباء- باتوا يقولون في رواياتهم وقصصهم النثرية ما لا يستطيعون قوله صراحةً في منابر أخرى، فصارت مجمل الروايات العربية حديثة الصدور محملة بالعبء السياسي الذي يشغلها كثيرا ويحتلها.
فمواصفات العمل الإبداعي الذي يستوقف الناقد نزار قبيلات هي الخلطة التي تجعل من كل نص مدهش ويكسر التوقع، ويعمل بجهد على إحقاق الخيبة التوقعية، لذلك يكمن سحر الأدب كما يراه ضيفنا في تحويل الساكن إلى متحرك، ومن هنا فإن الأدب عند قبيلات بالمجمل هو صورة المجتمع، سواء أكان بتمثيل من قبل الشخوص الورقية أو من قبل المؤلفين.
الأدب والتغيير
يؤكد نزار قبيلات أنّه بإمكان الأدب إحداث التغيير في المجتمع، يستند في ذلك إلى منسوب قدرة الوعي الذي حققته الرواية لدى أبناء المجتمع أوروبيا وعربيا، يتابع ضيفنا أن الأدب يستطيع بدفقة واحدة أن يقول ما لا تستطيع قوله الآلاف من المؤسسات، ومن هنا يرى قبيلات ضرورة إشاعة ثقافة القراءة لتغدو سلوكا طبيعيا في مجتمعاتنا لأن قراءة الأدب تشيع الإنسانية والأحاسيس الصادقة، حديثه عن ضرورة التنمية الأدبية في المجتمعات يدفعنا إلى سؤاله عن رؤيته للأدب الذي يظهر على الساحة الأردنية اليوم، ليقول إنه ثمة توجه بائن نحو الرواية كجنس أدبي رائج.
وهذا ينطلي على قُرّائها وكتّابها، فهي “الدسك” الذي أوقف القارئ عنده، ولا يخفى على أحد أن شعراء أردنيين تركوا منابر الشعر وهرولوا نحو دفوف الرواية رغبة في القصّ والحكي حول أشياء لم يتمكنوا من البوح بها في الشعر، فما يقولونه في الرواية لم يدركوه ربما في الشعر، وهذا ينسحب على بعض الروائيين من الأقطار العربية الأخرى، فالأدب في الأردن بحسب قبيلات لا يتجزأ ولا ينفصل عن روحه العربية، فهو يستجيب ويتعاطى مع الهمّ العربي بمسؤولية الجغرافيا والخسارة الكبيرة المتمثلة بفقدان نصف الأرض عام 1967.
الحديث عن الهموم العربية وصورتها في الأدب، يدفعنا إلى سؤاله عن اصطفاف الأديب سياسيا في ظل الانقسام الحاد الذي تشهده الساحات الثقافية على خلفية القضايا المتنوعة، ليقول إن على الأديب أن يتحمل المسؤولية، وأن يقول بصوت من لم يتمكنوا من القول والبوح، كما أن تجاوز الأديب عن التعاطي مع محيطه ورفضه الاشتباك معه يعد تقصيرا واضحا، على الضفة المقابلة يبدو أمام ضيفنا أدباء يرفضون الخوض في السياسة ومعتركاتها.
ويرون في الأدب تحليقا فانتازيا وفنا ينشد الجمال وأشكاله بانسلاخ عن الشرط الواقعي والتاريخي الرابض حولهم، فيبحرون في أتون الأسطورة ويرنون نحو قفز يميل للغرائبية والتشكيلية السريالية ومذاهب التعبير الشتى بنت الخيال الفني، غير آبهين لصوت الحرب والاختلافات، أمام هذه الصورة يؤكد قبيلات أن الأديب ابن البيئة والمجتمع وقدرته التعبيرية والتوثيقية يجب أن تُمارس وتعلن عن المجرم وعن الحقيقي والمزيف، وتصور بدقة تفرعات الإنسان في خارطة الحياة اللامتناهية.
والناقد نزار قبيلات من مواليد 1981 بمادبا بالأردن، وحصل من الجامعة الأردنية على درجة الدكتوراه عام 2010، ليحمل بعد ذلك رتبة الأستاذ المشارك في النقد الحديث وتعليمية اللغات، عمِل في جامعات أميركية وروسية كمحاضر زائر في فضاء اللغة العربية وآدابها للأجانب، صدر له في المجال البحثي “السرد الروائي الجديد”، “لسانيات النص” و”علم اللغة التطبيقي”.
المصدر: العرب
Sorry Comments are closed