باسم الشعب والجماهير والشارع يمكن أن تكون ضد الجميع عبر تمرير شعارات تمسّ «الفرد – الفردانية»، التيار الذي يتضخم يومًا بعد يوم كلما تعملقت العولمة وثورة الاتصالات، وتقارب الشعوب والثقافات وانصهارها في تيار عالمي. الفردانية التي تجعل الشعب يفكر في حدوده الضيقة ومصالحه الخاصة، وحتى هلوساته وقناعته المدمرة هي من أنتجت كل حركات الرفض للعولمة والانكفاء عليها، إما بالعودة للجذور والهويات الضيقة أو الانقلاب على الحداثة بأدواتها نفسها كما هو الحال مع «داعش» وأخواتها.
باسم الشعب فاز ترامب، لكن بخطابات شعبوية تنمي روح الفردانية والعدمية السياسية لدى الأبيض الذي بدا متخليًا عن سياقه الأميركي الذي صنع حضارة عظمى بانفتاحه على كل شيء لينكفئ على ذاته، ويختار الشعبوية لتفكيك وتجاوز كل الأسس التي يضعها القانون في تقييد الغرائز والنزعات الهويّاتية المنفصلة. وبالطبع، فإن شعارات شعبوية تختزل الفرد في حدود قناعاته الضيقة ومصالحه الخاصة لا يمكن تمريرها بشكل جمعي إلا باستخدام حجج الدفاع عن الأمة الأميركية وتوطيد الأمن القومي، وربما «الحرب على الإرهاب».
لا يمكن فهم فوز ترامب مع كل التحليلات المتعجّلة الوقتية من النخبة؛ فالمسألة لا علاقة لها بالذكورية في مقابل الفيمنست، وهو أمر متجاوز في الولايات المتحدة بنسبة كبيرة، كما هو الحال في تلكؤ وتباطؤ الأقليات في الانتخاب لعدم شعورهم بالجدوى رغم ضخامة عدد من لم يصوتوا، قرابة 100 مليون. ما حدث هو تحول جذري وبطيء في دينامكية المجتمع الأميركي وتفاعله مع الشأن السياسي الداخلي، فضلاً عن حماسته المتراجعة بفضل 8 سنوات من الخروج من السياسة الخارجية مع قضايا خارج تلك القارة المتخمة بالمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، والتوترات بشأن السياسات العامة التي يراها «الفرد» المشغول بذاته غير فاعلة،؛ وهو ما عكس تراجع معدلات الرضا عن الإدارة السياسية، ومن هنا كان الجمهوريون أذكى من نظرائهم بالزج بشخصية جدلية قلقة يمكن أن تطلق سيلاً من التناقضات السياسية بطريقة من الصعب معها إيجاد خيط رفيع يفصل بين المتن السياسي والهامش التسويقي الهزلي. والشعبوية في عالم السياسية هي المعادل الموضوعي لسياسة القمع اللفظي في دولة لا يمكن لها أن تنزلق في قمع الشوارع، كما هو الحال في مناطق أخرى من العالم الثالث.
السياق الترامبي، لو صحت التسمية، هو سياق عالمي يطال أعرق الديمقراطيات، فصعود خطابات وأحزاب اليمين في أوروبا، وإن في سياقات مختلفة يؤذن بأن العالم يتجه إلى عدمية سياسية بفضل صوت «الفرد» الذي يفضل التصويت للمجهول وركوب المغامرة، ولا سيما مع وجود خطاب إعلامي حماسي ومتهور يلامس جراح القلق من صعود الأقليات والآخر المختلف؛ فمجرد الدخول في سباق التصريحات المثيرة يعني تحول منصات الإعلام إلى منصات دعاية مجانية، كما شهدنا الحالة ذاتها مع خطابات الإرهاب وفيديوهات وتصريحات «داعش» وشيوخ التطرف وصحافة الغرائب. وبالتأكيد، فإن علاقة الفرد الأميركي بالإعلام المتلفز تختلف عن أي سياق آخر في العالم، حيث تؤثر الميديا بشكل فاعل كما لا تفعل أي أدوات أخرى أو روابط اجتماعية أو عقائدية، بفضل حالة الانعتاق من أي سلطة معرفية أخرى.
التلقي الإيجابي لفوز ترامب في السياقين المحلي والإقليمي هو نتاج حنق على سياسة أوباما وما فعله بنا خلال ثماني سنوات عجاف على مستوى السياسة الخارجية، حيث تعملق الإرهاب الفوضوي وحتى الذي تتبناه بعض الدول، كما هو الحال في إرهاب الميليشيات الشيعية الذي بات عابرًا ومتنقلاً بأريحية عبر الحدود دون رقيب أو حسيب، لكن هذا الأمر يجب ألا يلهينا عن الخلفية السوداء BACKGROUND لترامب تجاه المنطقة ومكوناتها وتاريخها، فهو يرى أن الأميركيين من أصول عربية فرحوا بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، كما أن تصريحه أن عقب أحداث برناردينو بكاليفورنيا إلى حصار المسلمين ومنع دخولهم حتى انتهاء التحقيق يدل مدى تلبّسه بالإسلامفوبيا، ومن زاوية أمنية وليس فقط بصفتها قلقا مجتمعيا تجاه الاندماج، رغم أن معدلات الاندماج للمسلمين في أميركا تفوق نظيراتها في أوروبا الأكثر تعقّلاً، والتي تلقت فوز ترامب بخيبة أمل كبيرة وقلق على منسوب التسامح مع الآخر؛ وهو الأمر الذي لم يكترث له ترامب الذي وعد بدوره بوقف قبول اللاجئين السوريين على خلفية هجمات باريس؛ الأمر الذي صعّده لاحقًا بطلب إنشاء قاعدة بيانات للمسلمين الموجودين على الأرض الأميركية، وهو أمر موثق في خطاب إحدى حملاته وكرره مرة أخرى في حوار مع قناة «إن بي سي نيوز».
الفرح بسياسة القوة التي يرفع شعارها ترامب على أمل أن يوقف من تعملق وتضخم المد الإيراني، أو إنهاء حل مشكلة الأسد، مع أنه صرح بأن الأزمة هي تجاه جيوب الإرهاب وليس النظام لا يكفي للاطمئنان أو عدم القلق بشأن رئيس لأكبر وأقوى دولة عرفها التاريخ المعاصر، هذا الاهتمام بانتخاباتها عبر كل أنحاء العالم، والذي اتخذ بفضل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إلى لحظة ترقب دولي يشي بأن شخصية ترامب، رغم كل التفاؤل، أقل كفاءة من الارتفاع بأميركا مجددًا إلى الدولة الحاسمة على مستوى السياسة الخارجية، وربما كوة الأمل الضيقة تبدو في قدرة الكونغرس والجمهوريين بخبرتهم الواسعة والضغوطات الدولية، ولا سيما من أوروبا أن تمضي في اتجاه عقلنة حالة الاندفاع والشعور بالغلبة بعد الانتخاب إلى مسارها الصحيح، وهو العودة بالولايات المتحدة إلى دولة قوية وفاعلة من دون انحياز قد يعجل برحيله خلال الفترة الأولى، وهو وقت ليس بالكبير في عمر السياسة، ما يحتاج إليه ترامب أن يتخلى عن السياسي المغامر ويلبس عباءة الرئاسة، بما تعنيه من نظرة مكبرة لحدود وقدرة أميركا على التأثير خارج خطابات الترشح، واستمالة الفرد الأبيض الغاضب.
* نقلا عن: “الشرق الأوسط”
عذراً التعليقات مغلقة