النظام إذا تكلم

عمر قدور8 نوفمبر 2016آخر تحديث :
النظام إذا تكلم

عمر قدور

* عمر قدور

ليس حدثاً معتاداً في سوريا أن يتحدث رئيس جهاز أمني إلى الإعلام، ولعل جزءاً من الهالة والغموض اللذين أحاطا بقادة أجهزة الأمن طوال عقود ناجم عن الابتعاد التام عن وسائل الإعلام. ذلك على رغم ما يُعرف من فعاليتهم الكبرى في الإبقاء على الحكم، وعن علاقتهم اللصيقة، التي لا تشبهها علاقة أي مسؤول مدني مهما بلغت مرتبته، برأس السلطة. الاستثناء الوحيد كان يخص قادة المخابرات السورية في لبنان، أيام وصاية النظام عليه، وهذا يعود إلى الانفتاح الإعلامي اللبناني، وبالطبع إلى الفضائح التي يصعب التكتم عليها هناك.

الحديث الذي نشرته وكالة سبوتنيك الروسية، في مطلع هذا الشهر مع اللواء جميل الحسن قائد المخابرات الجوية، يخرج عن المألوف القديم. وهو، باعترافه ضمن اللقاء، ظل لمدة أربعة عقود يعمل “تحت الأرض” وبعيداً عن الأضواء، وفي الواقع لم يكن مشهوراً على نطاق واسع قبل الثورة، لكن مع بدئها صار صيته ذائعاً ونُقل عنه القول لبشار الأسد أنه مستعد لقتل مليون سوري من أجل النظام، ومستعد في ما بعد للمثول أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. أيضاً، من السائد أن ينتشر مثل هذه الأقوال دون معرفة مصدرها، لكن في حالة قائد المخابرات الجوية كانت الأفعال تأتي لتؤكد مصداقيتها، فجهاز الأمن الذي يتبع له عُرف منذ بدء الثورة بأنه الأشرس على الإطلاق، قياساً إلى أجهزة أخرى مشهورة بدمويتها أيضاً. معروف أيضاً على أرض الواقع أن جهاز المخابرات الجوية لم يعد جهازاً أمنياً صرفاً، إذ تتبع له بشكل مباشر وحدات من الشبيحة تقاتل على مختلف الجبهات إلى جانب القوات النظامية.

في حواره الأول هذا لا يخفي جميل الحسن ما يشبه العتب على قيادته، مستشهداً بسلوك رئيسه الراحل حافظ الأسد عندما ارتكبت قواته مجزرة حماة في شباط 1982، فالرجل يرى أنه كان يجب مواجهة الثورة منذ البداية بنفس الأسلوب لوأدها. هو يعترض على الفترة التي كانت فيها قوات النظام تكتفي بقتل المتظاهرين، بدل محاصرة بلدات ومدن بأكملها وارتكاب المجازر فيها، رغم تنويهه بأن الضغوط التي تعرض لها بشار تفوق تلك التي تعرض لها أباه. والحق أن فكرة الحسن لا تخصه وحده، فهي فكرة كانت واسعة الانتشار لدى شريحة من جمهور الموالاة تتحسر على عهد الأسد الأب وقدرته المزعومة على تحقيق الانتصارات بسهولة، ومن المؤكد أن شخصية مثل قائد المخابرات هي أفضل من يلخص تلك السياسة بكلمات لا تعني سوى الإبادة الجماعية التي يؤخذ على بشار تأخره في بدئها، ولا يشفع له كثيراً ممارستها بدأب في ما بعد.

لا يطلق جميل الحسن كلاماً طائفياً مباشراً، لكنه أيضاً لا يفرق بين مختلف الجماعات الإسلامية أو بين مختلف المذاهب الفقهية؛ بالنسبة له كلهم سواسية وإرهابيون يستحقون الإبادة على غرار ما حصل في حماة. المنطق الطائفي نفسه هو ما يجعله لا يقيم أدنى تمييز بين انتفاضة قادها الإخوان في مطلع الثمانينات وانتفاضة شعبية عارمة انطلقت في آذار 2011، ولا يشرح كيف تأتى لأولئك الإسلاميين الذين تلقوا ضربة قاصمة في حماة أن يعودوا إلى الساحة بقوة شعبية، إذا كانوا حقاً هم من قام بالثورة. مع ذلك، خارج ذلك الضمير الطائفي المستتر، لا يخفي الحسن أنه ضد كل الانتفاضات على الإطلاق، فهو يشير بسلبية بالغة إلى مقاومة الأفغان للسوفييت، وينوّه بقدرة الحكم الشيوعي الصيني على قمع الحراك الطلابي عام 1989 حين حدثت المجزرة الشهيرة في ساحة تيانانمن.

يدعي جميل الحسن، من خلال اتصالات مزعومة له، أن ما لا يقل عن نسبة 80% من سكان الشطر الشرقي من حلب موجودون هناك تحت قوة سلاح “المنظمات الإرهابية”. غير أنه جواباً على سؤال لاحق، عما إذا سيكون هناك وقف لقصف أحياء حلب الشرقية بالطيران، يقول: أنا أقدّر أن حلب الشرقية لا تستحق إلا الحصار المحكم الذي ينهي المسألة. بصياغة أخرى، لا يتورع الحسن عن إبادة تلك النسبة الضخمة التي يقول إنها باقية هناك مرغمة، وهذا ما يشرح الذي حدث في حماة 1982، والذي يحدث على نطاق واسع في سوريا.

الحق أن قائد المخابرات الجوية، بخلاف رئيسه، لا يعمد إلى الفذلكة اللغوية أو المواربة. هو يذهب إلى ما يريد قوله بوضوح، مطعماً برواية النظام القديمة المتجددة عن مؤامرة كونية. إلى هذه المؤامرة تنضم مقولات يستثمرها الغرب، مثل قضايا حقوق الإنسان التي يعترض عليها بالقول: “الحقّ ما سنَّ القوي بسيفه، فبحدّه التحليل والتحريم”. ثم يتشكى من خديعة مارسها الغرب قبل عام 2010 بالقول: “هم ضحكوا علينا تحت مسميات الديمقراطية والحرية والانفتاح، وكل أنواع تمييع المجتمع وتحويله من مجتمع جاد إلى مجتمع بلا حجم”. لا بد أنه هنا أيضاً يعاتب رئيسه الذي حاول الإيحاء بأنه منفتح على الغرب وقيمه، ولا تقنعه مجموعة الإجراءات التي عمد إليه بسجن معارضي ما عُرف بربيع دمشق، فهي ليست كافية ولا تشبه الحزم الذي أبداه الأب في حماة.

صحيح أن إطلالة الحسن الإعلامية لا تقدم لنا جديداً، فالمجازر تشرح فحواها بأبلغ من كلماته، لكن يبقى صحيحاً أيضاً أن كلماته وظهوره الاستثنائي يحسمان أدنى شك حول توجهات النظام الحالية، وطالما أتيح له البقاء. صحيح أيضاً أن بشار الأسد في لقاءاته الإعلامية لا يبدي أدنى حساسية إزاء أعمال الإبادة التي ترتكبها قواته، لكن هذا لا يجرد أقوال الحسن من دلالتها على العقل الأمني المتكامل للنظام، أو بالأحرى أمثال الحسن هم من يجعلون من الطغمة الحاكمة نظاماً، ومن المرجح أن هؤلاء من يقصدهم الروس عندما يتحدثون عن المؤسسات، وربما أيضاً هذا ما يقصده بعض الغرب عندما يطالب بالحفاظ على المؤسسات، تماماً مثلما هذا ما يؤكد على ما يعنيه السوريون بإسقاط النظام. يبقى أن نشير إلى فهم الحسن نفسه للعمل “المؤسسي” الذي يديره، فهو في اللقاء يشير إلى قضية “فساد” حدثت في جهازه، حيث اكتشف أن بعض الضباط والعناصر يتقاضون الرشاوى ليسمحوا لأهالي المعتقلين بزيارتهم، ما اقتضى منه إجراءات مشددة وزرع كاميرات مراقبة لئلا يتكرر هذا السلوك المشين!

* “المدن”

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل