بنظرةٍ عامّةٍ على خريطةِ القتال في سورية، لا يبدو، بعد قليلٍ من النظر، أنّ المعارك ذاتَ الأهميةِ القصوى للثورة السورية، ذاتَ أولويةٍ فعليةٍ على الأجندة القتالية العامّة. بل يبدو مستقبلُ الثورةِ السوريةِ عامّة عام2016 يقعُ على الهامش، في حين تحظى مصالح قوى وأطراف دولية متعارضة بالمتن. أي بتحديد أولويات القتال وأولويات المعارك التي يجبُ على الثوار والمجاهدين خوضُها.
وعلى رغمِ بدءِ معركةِ تحريرِ حلب، التي دشّنتها عدّةُ فصائلَ جهاديةٍ وثوريةٍ تحت عنوانِ “ملحمة حلب الكبرى” يوم الجمعة الفائت، الثامن والعشرين من أكتوبر 2016، والتي حقّقت تقدمًا كبيرًا باتّجاه فكّ الحصار عن أحياء حلب الشرقية في أيامها الأولى؛ إلاّ أنّ توقيت بدء هذه المعركة المحورية جاء متأخرًا جدًّا عمّا تقتضيه مصلحة الثورة السورية من الأساس.
في الشهور القليلة الماضية، بدا أنّ أولويات الأجندة القتالية يحدّدها كل طرف من الأطراف المتدخلة في سورية بحسب مصلحته المباشرة، ودون نظر لمصلحة الثورة السورية ومستقبلها.
هناك أولاً، المشروعُ الإيراني الذي يدعم نظام الأسد السوري، ويستخدمه لتحقيق مصالحه بالتمدد في الشرق الأوسط، بالإضافة لاستخدامه حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية شيعية مثل حركة النجباء. هذا النظام الأسدي المدعوم من إيران، يفرضُ سياساتٍ ممنهجةٍ لأجل التطهيرِ العرقيِّ منذ أيام الثورة الأولى. ولم يكن وصوله لتهجير سكّان داريّا الذين كانوا يبلغون 250 ألف نسمة بالكامل سوى مشروعٍ عمل فيه على مدار خمس سنوات، عبر سياسة الحصار والتجويع الممنهجة. ثمّ استطاعَ النظام الأسدي تطهيرَ كاملِ الغوطة الغربية، ليتفرّغ الآن لتطهير الغوطة الشرقية. بالإضافة لحصاره حلب الشرقية المستمرّ منذ عدة أشهر. وهي المعركة ذات الأهمية القصوى للثورة، بعد الغوطة الشرقية. وهناك معارك النظام في حماة كذلك، وهي المحافظة الوسط بين محافظة حمص الخاضعة للنظام، ومحافظة إدلب الخاضعة للثورة.
وهناك ثانيًا، روسيا، التي كانت تدعم نظام الأسد سياسيًّا منذ بداية الثورة. ولكنّها تدخلت بقواتها الجوية منذ سبتمبر 2015 واستمرّت في قصف مختلف المناطق الخاضعة للثورة السورية. وعلى الأخص، حلب، التي استمرّت تقصفها بوحشيّة وتدّمر مستشفياتها ومدارسها وتقتل أطفالها، حتى أوقفت قصفها بقرار منفرد منذ ما يقارب العشرة أيام. وقد وصلت روسيا لتحقيق هدفها من التدخّل العسكري في سوريا حين أجبرت الولايات المتحدة على الجلوس معها على طاولة المفاوضات، لتقرير مصير حلب. فلم تكن روسيا تبغي من تدخلها في سوريا سوى أن تثبت للولايات المتحدة أنّها قوة عظمى مساوية لها.
وهناك ثالثًا، الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية العظمى، التي لا تتدخل سوى لمصلحة أمنها القومي كذلك. وحين كان بالإمكان نصرة الثورة السورية وإسقاط نظام الأسد في الشهور الأولى للثورة والحيلولة دون ما حدث الآن، لم تتدخل الولايات المتحدة، وآثرت الانتظار حتى قامت قيامة داعش، فشكّلت التحالف الدولي لضرب التنظيم وتقويضه.
وهناك رابعًا، الأكراد، الذين يخوضون معركتهم القومية الخاصة بهم، ولا تعنيهم الثورة في قليل أو كثير. بل يعنيهم السيطرة على أراضي الشمال السوري على الحدود مع تركيا، لتحقيق حلم الفيدرالية التي قد تعوضهم عن فرصتهم التاريخية الضائعة في إقامة دولتهم القومية.
وهناك خامسًا، تركيا، التي دعمت عدّة فصائل سورية بشكل غير مباشر، بالإضافة للدعم الإغاثي والإنساني التي قدّمته ولا زالت تقدّمه للاجئين السوريين. ولكنّ تركيا، على مدى خمس سنوات من الثورة، لم تقرر التدخل البري، سوى عبر عملية “درع الفرات” العسكرية، والتي لم تخضها سوى لمصلحة أمنها القومي مباشرة. حيث أرادت تركيا تأمين حدودها المشتركة مع سورية والحيلولة دون قيام فيدرالية كردية من جهة، وتقديم نفسها للولايات المتحدة كبديل عن القوات الكردية لقتال تنظيم داعش من جهة أخرى، فتستطيع بذلك منع تقوية الأكراد الذين يشكلون خطرًا على الأمن القومي التركي.
تُرى، أين مصلحة الثورة السورية من كلّ ما يجري من معارك في سورية؟
هل معركة التحالف الدولي التي تجري لأجل القضاء على تنظيم داعش منذ أكثر من عامين من أولويات الثورة السورية؟ حتّى وإن كان في القضاء على داعش مصلحة للثورة؟ ألم يكن من الأولى للثورة أن يوجّه لها الدعم لتسقط نظام الأسد قبل قيام هذا التنظيم من الأصل؟
هل كان توقيت معركة “درع الفرات” التي بدأت في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، والتي استمرّت حتّى الآن هو التوقيت الأولى لمصلحة الثورة السورية؟
ألم يكن من الأولى للثورة أن تخوض المعارك في الغوطة الغربية لأجل منع التهجير النهائي الذي حدث في بها منذ الثلاثين من أغسطس الماضي وحتى الأيام الأخيرة من أكتوبر، أي في نفس التوقيت الذي تجري فيه معركة “درع الفرات”؟
بل ألم يكن من الأولى للثورة السورية أن تخوض المعارك لأجل الحيلولة دون عمليات التهجير من الأصل؟ كيف حدث التهجير في حمص في عام 2014، ثمّ انشغلت فصائل الثورة وفصائل الجهاد بمعارك شتّى في العامين الأخيرين دون أن تخطط لمعركة كبرى تحول دون التهجير في الغوطة الغربية؟ وماذا عن الغوطة الشرقية المهدّدة بالتهجير كذلك؟ هل سنصحو يومًا على خبر تهجير نهائي، بينما تخوض الفصائل بعض المعارك ذات الأولوية لغيرها، ولكن القابلة للتأجيل بالنظر لمصلحتها؟
استطاع الثوار والمجاهدون فك الحصار عن حلب لأيام قلائل في أغسطس الماضي، ثمّ توقفت المعارك، فاستطاع النظام إحكام الحصار على حلب مرة أخرى. وتأجلت المحاولة الثانية لتحرير حلب لتبدأ يوم الجمعة الفائت، في حين تقدمت “درع الفرات” بمساعدة ثلاثة فصائل من الجيش الحر لتصل ليومها الثامن والستين وتحقق أهدافها في إقامة “منطقة آمنة” للحدود التركية. ليس لتركيا مانع بالتأكيد أن تكون المنطقة الآمنة هذه، آمنةً لبعض السوريين المدنيين كذلك، ولكن كتحصيل حاصل، وليس كهدف أساسي.
وفي معركة درع الفرات، وجد الجيش الحر نفسه يساعد تركيا، ويقاتل تنظيم داعش، وتنظيم “قسد” الكردي، ولكن لم يقاتل عدوّ الثورة الأول، لم يقاتل الميليشيات الأسدية والشيعية الموالية لإيران. نعم، بالتأكيد، كان هناك فوائد كثيرة لدرع الفرات، من حيث أنّ القوات الكردية مدعومة من نظام الأسد، ومن حيث أنّ تنظيم داعش عدو للثورة كذلك. ولكن كانت فوائد من الممكن تأجيل تحصيلها قليلاً لأجل الأولويات الأهم للثورة السورية، لأجل ريف دمشق، ولأجل حلب.
وأعود فأتساءل، هل ستبقى الثورة السورية تقع في هامش الأجندة العسكرية في سورية، بينما يحتلّ المتن كلّ قوة ذات مصلحة قد تتلاقى في أحيانٍ مع الثورة السورية، وقد تتعارض مع أولوياتها في أغلب الأحيان؟
المصدر: مصر العربية
عذراً التعليقات مغلقة